الكمامة هى الحل
لعلها المرة الأولى منذ سنوات طويلة، تتصدّر فيها قضية صحية اجتماعية، أولوية اهتمامات الناس، وتسيطر على مشاعرهم وعقولهم، وتجرفهم بعيداً عن الكثير من القضايا والموضوعات، التى انشغلوا بها لفترة من الزمن استهلكت من تفكيرهم وعمرهم الكثير والكثير.
الحاصل أن انشغال المصريين بفيروس كورونا، تحول فى غمضة عين، من البحث عن حقيقة الفيروس، ولقاح من أجل القضاء على الفيروس، إلى التعايش معه بديلاً وحيداً، وبدلاً من الاهتمام بمعرفة الدواء، تقلصت الاهتمامات إلى الحديث عن الكمامة، التى أصبحت حلاً وحيداً الآن، ولأمد غير منظور، فى مواجهة الـ«كورونا».
قبل 2011 كان أغلب المصريين خبراء فى كرة القدم، بعد أن أصبحت اللعبة الشعبية الأولى، هى الأكثر رحابة لمناقشة شئونها بحرية كاملة، فأصبح فى كل بيت مدير فنى أجنبى، يحلل وينتقد ويهاجم، وبعد 2011 انقلب الناس من خبراء فى كرة القدم، إلى محللين سياسيين من طراز رفيع، وانطلق الناس للمناقشات السياسية، بعد أن اتسع المجال، ليشمل عموم مصر من أقصاها إلى أقصاها.
الآن اختلف المجال تماماً، ولم يحتاج الأمر إلى زمن طويل، لتتبدّل وتتغير الاهتمامات، وخلال شهرين فقط، تحدث كل المصريين، عن معامل التحاليل، وأسماء اللقاحات، والتجارب المعملية، وآخر أخبار الاكتشافات الجديدة، لكن سرعة المتغيرات لم تمهل المصريين وقتاً كافياً، للاستغراق أكثر وأكثر فى الجوانب العلمية، حتى انقلبوا إلى اهتمام أكثر تطوراً.
الحاصل أن الناس فى الأغلب الأعم، قد تيقنوا من ديمومة الحال لفترات طويلة مستقبلية، وأن انتظار اكتشاف لقاحات وأدوية سيستغرق وقتاً أطول، ولن يفيد استمرار الحديث فى هذا الجانب، حيث ارتفاع معدلات الإصابة، وتزايد حالات الوفاة، قد ألقت على نفوس الناس بما لا يُطاق، فكانت دورة الاهتمامات السريعة المفاجئة.
والشاهد أن كل أحاديث الناس انصبت على قصة «الكمامة»، ولا يخلو مجلس أو لقاء أو دردشة عبر الهاتف من حديث الكمامة، وبات السؤال عن أماكن وجود كمامات أكثر إلحاحاً وتصدّراً للمشهد فى أحاديث ربات البيوت عن الاهتمام بالحديث التقليدى «حتطبخى إيه النهارده»، وأحال الرجال دردشاتهم إلى تساؤلات واستفسارات عن الكمامة ودورها فى توفير الحماية المطلوبة.
ومن خبراء الرياضة إلى السياسة إلى البحث العلمى، لدينا الآن خبراء بارزون متخصصون فى «الكمامة»، وهؤلاء ليسوا قلة مندسة، أو جماعة مغمورة منعزلة على نفسها، وإنما هم بأعداد غفيرة، تمكنوا من تحصيل العلوم والمعارف سريعاً، ويدلون بدلوهم فى كل مكان، ويتحاورون ويتناقشون بكل ثقة وأريحية عن الكمامة.
من أحاديث أنواع الكمامات، والمواد المستخدمة فيها، إلى كيفية ارتدائها، وأهميتها وضرورتها، والفروق بين أنواع الكمامات، وأفضلية الكمامة «الجراحية» والكمامة ذات الفلتر، والفارق بين الكمامة العادية والكمامة «إن 90».
وانضمت مواقع التواصل الاجتماعى إلى «سباق الكمامة»، ونشط النشطاء فى الحديث عن الكمامات، ما بين مروج لها، إلى ساخر منها، وكالعادة تحولت بعض الحسابات إلى منصات لإطلاق الشائعات هنا وهناك، حول سياسات الدولة لاستخدام الكمامات وسيلة لتمييع الصراع الطبقى، أو من أجل مصالح معينة، وبدا واضحاً مناطق تمركز مدفعيات للإساءة إلى هذا المُنتج أو ذاك من الكمامات.
وهكذا فرضت «الكمامة» نفسها، وامتلك الناس سريعا جداً مفردات الملف، وأبدعوا فى مناهج التحليل، وفى أدوات البحث، بعد أن اكتشفوا أن الكمامة هى السبيل للحياة، وأنها أيضاً جزء من الصراع الاجتماعى، والمنافسات الاقتصادية، وأضاف إليها البعض بالطبع الأبعاد السياسية، حتى يجد له منفذاً لمهاجمة الدولة وسياساتها.
التعامل السريع من الناس مع الكمامة بكل مشتملاتها وتفرّعاتها وتنوعاتها، عكس وعياً مختلفاً لدى قطاعات واسعة هى الأغلبية فى الأغلب بين المصريين، فبعد أسابيع من نظرة الناس بدهشة، وبابتسامة خبيثة ساخرة، تجاه من يسير مرتدياً الكمامة، انقلب الحال بين ليلة وضحاها، إلى اهتمامات قصوى، وأصبحت الدهشة والغضب فى الأغلب هى النظرة إلى من لا يرتدى الكمامة.
صحيح أن أصحاب الكمامات لا يمثلون أغلبية الناس حتى الآن، لكن انتشار الكمامة فى الأسبوع الأخير كان أشبه بقفزات ضفدعية سريعة، تعكس خوف الناس من ناحية، كما تعكس يقيناً لديهم، بأنه لم يعد هناك سوى الكمامة وسيلة للمواجهة.
أعتقد أن «الكمامة» ستفرض سيطرتها لفترة ليست بالقليلة، وبعد أن كان استخدام «الكمامة الواحدة» لعدة ساعات فقط، أصبح لدينا الآن «كمامة» مثل ملابسنا «غسيل ومكواة» وألوان للتغيير، وأخشى من ظهور كمامات للأثرياء متميزة عن كمامات الطبقة المتوسطة، أو كمامات الفقراء، ورغم كل ذلك ستظل لفترة طويلة الكمامة هى الحل، ولا عزاء لجماعة الإخوان الكذابين.