القضاء فى زمن الكورونا (4)

مساء يوم الخميس الموافق 23 أبريل الماضى، عقد رئيس مجلس الوزراء مؤتمراً صحفياً، للإعلان عن قرارات التعامل مع أزمة كورونا خلال شهر رمضان المبارك، حيث تم الإعلان عن العودة التدريجية لجلسات المحاكم، وتحديداً إعلام الوراثة. وبناء على ذلك، صدر كتاب مساعد وزير العدل لشئون التفتيش القضائى إلى رؤساء المحاكم الابتدائية بعقد جلسات إعلام الوراثة، اعتباراً من يوم الأحد الموافق 26 أبريل الماضى، مع مراعاة قرار رئيس الوزراء بشأن منع التكدس واتخاذ التدابير الاحترازية لمنع انتشار الوباء حفاظاً على الصحة العامة. ولكن، وفيما عدا «إعلام الوراثة»، فقد أكد الكتاب الصادر عن مساعد وزير العدل لشئون التفتيش القضائى «استمرار المحاكم الابتدائية وجزئياتها فى تأجيل نظر الدعاوى اتساقاً مع جهود الحكومة فى استمرار الإجراءات المتخذة للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد». ويبدو أن ذلك لم يكن على مستوى تطلعات القيادة السياسية، حيث اجتمع السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى بكل من وزير العدل ووزير المالية، لمناقشة تطوير المنظومة القضائية. وبعد هذا الاجتماع مباشرة، قرر وزير العدل نظر الدعاوى المتعلقة بتقرير نفقة مؤقتة للزوجة والصغير والدعاوى المتعلقة بالولاية على المال، كما قرر التنسيق مع محكمة استئناف القاهرة بشأن نظر الطعون بالنقض فى قضايا الجنح المنعقدة فى غرفة المشورة.

والواقع أن هذه القرارات لا تتضمن خصوصية معينة لمرفق القضاء، وإنما تأتى فى إطار توجه عام نحو العودة التدريجية للنشاط التجارى والدراسى والخدمى، توطئة لعودة الحياة إلى طبيعتها بشكل كامل. وإذا كانت هذه العودة التدريجية لجلسات المحاكم بعد حالة التوقف شبه الكامل تشكل توجُّهاً محموداً، فاعتقادى أنه كان فى الإمكان أفضل مما كان، وكان ممكناً تفادى حالة التوقف شبه التام لجلسات المحاكم منذ بداية الأزمة. فما لا شك فيه أن استمرار العمل فى المحاكم والنيابات، مع مراعاة مبدأ التباعد الاجتماعى، هو التطبيق المثالى لمنطق إدارة الأزمة، لا سيما أن منظمة الصحة العالمية أعلنت أن جائحة كورونا لن تنتهى قريباً، ولا يمكن بالتالى قبول حالة التوقف شبه التام للمحاكم على المدى الطويل. وفى اعتقادى أن استمرارية الخدمات القضائية مع مراعاة مبدأ التباعد الاجتماعى تتحقق من خلال تفعيل وإعمال بعض الآليات التى تكفلها النصوص القانونية الحاكمة للعمل القضائى. ففيما يتعلق بالقضاء الجنائى، تجيز النصوص القانونية السارية لقاضى المحكمة الجزئية المختصة سلطة إصدار أمر جنائى فى الجنح التى لا يوجب القانون الحكم فيها بعقوبة الحبس، فضلاً عن العقوبات التكميلية والتضمينات وما يجب رده والمصاريف. وغنىّ عن البيان أن الأمر الجنائى يصدر بغير إجراء تحقيق أو سماع مرافعة. فإذا كانت الجريمة جناية أو كانت جنحة معاقباً عليها وجوباً بالحبس، فإن القانون رقم (11) لسنة 2017 بشأن تعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية قد أناط بالمحكمة سلطة أن تقرر من ترى لزوم سماع شهادته، شريطة أن تسبب ذلك فى حكمها. ولا شك أن تفعيل هذه المكنة، متى توافرت مبرراتها، يمكن أن يسهم فى تحقيق مبدأ التباعد الاجتماعى، ويساعد فى تقليص عدد الحضور فى قاعات المحاكم. ويوجب القانون «على المحكمة أن تقرر تلاوة الشهادة التى أبديت فى التحقيق الابتدائى أو فى محضر جمع الاستدلالات أو أمام الخبير، إذا تعذر سماع الشاهد لأى سبب من الأسباب». كذلك، وبموجب القانون رقم (11) لسنة 2017م، أجاز المشرِّع الحضور بوكيل فى الجنايات، وبحيث يكون الحكم حضورياً، إذا مثُل المتهم أو وكيله بالجلسة. ومن شأن ذلك أن يقلل من عدد الحضور أمام المحاكم، بما يسهم فى تحقيق مبدأ التباعد الاجتماعى، ولكن المشكلة أن بعض الدوائر تتطلب حضور المتهمين فى كل القضايا، متذرعة بسلطتها التقديرية فى هذا الشأن.

وفيما يتعلق بمحكمة النقض، لا يجيز المشرِّع إبداء أسباب أخرى أمام المحكمة غير الأسباب التى سبق للطاعن أن أودعها فى الميعاد المقرر، وللمحكمة أن تحكم فى الطعن بعد تلاوة التقرير الذى يضعه أحد أعضائها، دونما التزام عليها بسماع أقوال النيابة العامة والمحامين عن الخصوم، ولا تسمع أقوال الخصوم أنفسهم. ومن جماع ما سبق، يبدو مستساغاً القول بأن المنظومة القانونية السارية تجعل ممكناً الفصل فى عدد كبير من الدعاوى، دون حاجة إلى حضور الخصوم، الأمر الذى يبدو معه غير منطقياً وقف العمل كلياً فى المحاكم.. والله من وراء القصد.