قصتان عن حرية الرأى والتعبير

القصتان التاليتان ضروريتان لفهم الطريقة التى بات يتعامل بها المجتمع فى الدول المتقدمة مع حرية الرأى والتعبير. القصة الأولى تتعلق بصحيفة «نيوز أوف ذا وورلد» البريطانية ذائعة الصيت، التى اضطر مالكها إمبراطور الإعلام روبرت ميردوك إلى إغلاقها، رغم كونها من أهم صحف «التابلويد» الأسبوعية فى المملكة المتحدة، وأكثرها توزيعاً بنحو ثلاثة ملايين نسخة أسبوعياً. لقد افتضح أمر محررين لدى «نيوز أوف ذا وورلد»، بعد كشف وقائع تنصتهم على هواتف بعض ضحايا الجرائم، وعدد من النجوم، وعائلات جنود قتلوا فى عمليات عسكرية. اعتذرت الصحيفة بمجرد الكشف عن فضيحة التنصت، لكن اعتذارها لم يكن كافياً. وانتفضت هيئات «التنظيم الذاتى» الناشطة فى المجال الصحفى والإعلامى البريطانى، ضد «ميردوك» ومجموعته الإعلامية، التى خضعت لمحاسبة ومراجعة دقيقة من جهات عديدة. لقد أحس «ميردوك» بأن الأمور تتدافع فى غير صالحه؛ لذلك فقد قام بنفسه باتخاذ القرار الصعب. أغلق «نيوز أوف ذا وورلد». القصة الثانية من بعيد.. من أستراليا. فقد قررت وزارة التجارة العادلة فى هذا البلد تغيير اسم إحدى منظمات المجتمع المدنى من «شبكة التطعيم»، إلى «شبكة التشكيك فى التطعيم»، كما أزالت الإعفاء الضريبى الذى تتمتع به الشبكة بوصفها «عملاً خيرياً»، وألزمتها بعدم «ترويج معلومات مضللة»، وأوقفت توزيع بعض مطبوعاتها. وكانت تلك الشبكة قد سخرت نفسها لتقديم معلومات وصفت بأنها «مجتزأة من السياق وغير دقيقة» بشأن ما قالت إنه «أضرار التطعيم» ضد الأمراض، ونشطت فى تشكيك الجمهور فى عمليات التطعيم، إلى حد أن السلطات وجدت تراجعاً ملحوظاً فى نسب الإقبال على التطعيم فى البلاد، واستطاعت أن تربط بين هذا التراجع وبين نشاط الشبكة. تعترف أستراليا بالحق فى حرية الرأى والتعبير، ويتم تصنيفها فى مراتب متقدمة فى مؤشرات حرية الصحافة العالمية المعتبرة، ولا توجد شكاوى مؤثرة من حالة الحريات فيها، لكن السلطات وجدت، مع كل هذا، أن «إطلاق حق بعض الأشخاص أو المنظمات فى تقديم معلومات مضللة للجمهور» يمكن أن يضر بمصلحة الأفراد وبالمصلحة العامة. يؤدى إحجام بعض الأفراد عن التطعيم أحياناً إلى انتشار أمراض بعينها، وبالتالى إصابة آخرين، ولذلك، فقد تدخلت الحكومة للحد من أنشطة تلك الشبكة، وألزمتها بتغيير اسمها حتى يكون منظورها واضحاً. حين وجدت الحكومة أن المعلومات التى تقدمها الشبكة «مضللة وغير مبرهن عليها ومنزوعة من سياقها»، قامت على الفور باتخاذ إجراءات للحد من تأثيرها «الضار»، ولم يثر هذا الإجراء أى قلق بشأن حرية الرأى والتعبير. تعطينا القصتان السابقتان إطاراً مناسباً لكى نفهم طبيعة العلاقة بين حرية الرأى والتعبير وحق الجمهور والمصلحة العامة فى مجتمع حر متقدم منظم تنظيماً جيداً. وتوضح القصتان، من دون مواربة، أن الحق فى حرية الرأى والتعبير، والحق فى إعلام حر منفتح بلا أى رقابة أو تضييق، يستلزم صيانة جملة أخرى من الحقوق، على رأسها الحق فى الخصوصية، وفى الحصول على معلومات سليمة غير مضللة، وعدم الإضرار بمصالح الآخرين أو بالمصلحة العامة. إن الدفاع عن حرية الرأى والتعبير التزام أساسى تفرضه العهود والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، كما أن الإطار التشريعى المصرى يعلى هذا الحق ويحميه، وقد نص عليه التعديل الدستورى، الذى تم إقراره فى مطلع العام الحالى، بوضوح، وقبل هذا كله، فإنه التزام أخلاقى ومصلحة وطنية. لكن المجتمعات الحرة والأكثر نضوجاً وتنظيماً تعرف أيضاً أن الدفاع عن حرية الرأى والتعبير يستلزم أحياناً إجراءات مثل تلك التى اتخذها «ميردوك» طواعية، أو تلك التى قررتها الحكومة الأسترالية بحق «شبكة التطعيم».