الجيش الأبيض الثانى

أعادت جائحة كوفيد 19 كرامة مهنة الطب والتمريض لمكانتها، وجعلت من منتسبيها أبطالاً، يشار إليهم بالبنان، وجعلت المواطنين يغنون لهم فى الشوارع، على أنغام الموسيقى التى تخرج من سيارات الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التى تجوب الشوارع والطرقات، تقديراً وعرفاناً.

وكما احتفظ المصريون لضباط وجنود القوات المسلحة بمكانة عالية، عقب انتصار أكتوبر 1973، ظلت، حتى يومنا هذا، تتوارث وتنتقل من جيل إلى آخر، يمنح المصريون الأطباء مكانة تقترب من مكانة ضباط وجنود الجيش.

بدا ذلك جلياً بعدما آمنوا بمصطلح الجيش الأبيض، الذى خرج من دول عدة فى العالم، واستقر فى وجدان الشعب المصرى، رغم يقينه أنهم لم يحصلوا على حقهم بعد، ولم يقدروا التقدير الكامل بعد، حتى بعد منحة «الامتياز» التى يأملون فى أن يعاد النظر فى بدل العدوى الضئيل الذى يتقاضونه، ليصل إلى 3500 جنيه على الأقل.

لكن ورغم كل هذا الدور الجليل الذى يلعبه الأطباء فى الدفاع عن مصر، أمام العدو الفيروسى، الذى افترس منهم عدداً لا بأس به، لم يكن هذا كل ما تقدمه مصر البيضاء لأبنائها، فبمراجعة الأرقام المنشورة محلياً وعالمياً، وما تتناقله الدوريات الغربية، والسفارات الأجنبية العاملة فى مصر، وتقارير الصحف المصرية والعربية والعالمية، فإن مصر تقدم للبشرية جيشاً آخر، لا يقل عطاءً ولا تضحية عن الجيش الأبيض الأول، فهناك جيش أبيض مصرى ثانٍ، لكن هذه المرة «عالمياً»، الأرقام، التى سيرد ذكرها، مسجلة فى كشوف النقابة العامة للأطباء، حتى بداية عام 2020 حيث ضمت أعداد الجيش الأبيض الأول نحو 239835 طبيباً، منهم 188 ألفاً و535 طبيباً فى المستشفيات والمراكز والمعامل الحكومية والخاصة، و24 ألفاً و300 طبيب حر، ونحو 54 ألف طبيب على المعاش، لا يزال يعمل نصفهم على الأقل بتقدير 27 ألف طبيب، هذه الأرقام من المتوقع أن تزيد بنحو 10 آلاف طبيب، يتخرجون سنوياً فى الكليات الحكومية والخاصة والأهلية، بالتالى سيكون لدينا جيش أبيض أول قوامه نحو ربع مليون طبيب.

ماذا عن الجيش الأبيض الثانى؟

مصر قدمت وما زالت تقدم للعالم نحو 120 ألف طبيب، هم قوام جيشها الأبيض الثانى، موزعين بغير عدالة بين الشرق والغرب، حيث يوجد فى الشرق الغالبية العظمى، بمجموع يقترب من 70 ألف طبيب فى دول الخليج العربى، تستأثر المملكة العربية السعودية وحدها بنحو 60 ألف طبيب مصرى، يقفون على جبهة مكافحة فيروس كورونا مع زملائهم من الجنسيات الأخرى فى مدن ومناطق المملكة مترامية الأطراف.

فى حين أن نحو 20 ألف طبيب مصرى يقاتلون على الجبهات المتقدمة، فى إيطاليا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا، ويبذلون جهوداً غير عادية لإنقاذ القارة العجوز من السقوط فى غياهب العودة للقرون الوسطى، بخلاف من تجاوزوا المحيطات ويساندون مواطنى الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا فى الكفاح المشرف ضد وباء العصر الحديث.

هذا الدور الجليل الذى يلعبه الجيش الأبيض الثانى جعل دولة مثل المملكة المتحدة تفتح مركزاً متخصصاً لاستقبال طلبات الالتحاق بصفوف أطباء بريطانيا للقادمين من مصر مرتين فى السنة، فى حين أنها كانت تفتح أبواب هذا المركز مرة واحدة فى السنة، لكن أمام الأطباء المصريين وكفاءتهم وقدراتهم، وبالأخص تعليمهم، أصبح الطبيب المصرى فى كفة، وأطباء العالم فى كفة أخرى، ويكفى أن نضرب مثالاً على هذا الطلب المتزايد على الطبيب المصرى بأن الشهور الثلاثة الأخيرة من عام 2019 شهدت وحدها سفر 280 طبيباً مصرياً للمملكة المتحدة فقط.

مثال آخر، قررت هيئة الرعاية الصحية بالمملكة المتحدة استثناء الأطباء المصريين فقط من شرط «المعادلة»، دوناً عن الأطباء الهنود والباكستانيين، الذين كانوا الأكثر طلباً فى الأعوام الماضية، ليحتل المصريون المرتبة الأولى على مدار ثلاث سنوات وحتى الآن.

الطلبات على الأطباء المصريين تتركز أكثر فى تخصصات الطوارئ والعناية المركزة والتخدير، وهى تخصصات تحتاج إلى خبرة وعمل شاق لمدة لا تقل عن خمس سنوات، وهى فى حقيقة الأمر تخصصات نحتاج إليها محلياً بشدة، ونحتاج إلى تدريب أكثر للأطباء الخريجين.

وحتى نتحمل بشجاعة مسئولية إمداد وتموين الجيشين الأبيض الأول بزيادة بدل العدوى لهم، والأبيض الثانى بصقلهم وتدريبهم ولا نقف حجر عثرة أمام مهمة إنقاذ العالم، علينا أن نكون أكثر انفتاحاً ونحن نعالج هذا الأمر، فشرف لمصر أن تعود لتصدر الأطباء، وأتمنى من الله أن يعود المدرس المصرى مرة أخرى ينير الطريق للبشرية مرة أخرى.