شنغهاى أم نيويورك.. تشانج وى يناظر فرنسيس فوكوياما
فى اللغة الإنجليزية تجرى كتابة كلمة «أنا» بحرف كبير، وذلك للدلالة على أهمية «الأنا» فى هذه الحياة. وفى اللغة الصينية لا يوجد هذا التمييز. فالضمير «أنا» تجرى كتابته مثل كل الضمائر: أنت وهو وهى ونحن. يجب أن تُكتب كلها بنفس حجم الحروف.
إن مؤسس الصين المعاصرة «دينج شياو بينج» أفضل من «الأم تريزا»، ذلك أن طريقة «بينج» هى تحقيق المصلحة العامة، ومنها يستفيد الفرد. أمّا طريقة الأم تريزا فى الهند فهى الحقوق الفردية وليست الجماعية. وهناك فرق بين الطريقتين. فقد استطاعت طريقة «دينج» مساعدة (400) مليون صينى فى الخروج من دائرة الفقر. إنهم الآن يتصفحون الإنترنت ويقودون السيارات على الطرق السريعة، أمّا الأم تريزا فقد حازت إعجاباً كبيراً، وحصلت على جائزة نوبل للسلام، ولكن الفقر فى الهند لم يتغيّر.
هكذا تحدث «تشانج وى وى» فى كتابه «الزلزال الصينى.. نمو دولة حضارية»ـ. وكان ذلك عماد دفاعاته فى مواجهة عالم السياسة الأمريكى فرنسيس فوكوياما.. فى المناظرة التى انعقدت بينهما فى شنغهاى.
يعمل «تشانج وى وى» مديراً لمركز دراسات النموذج الصينى.. عمل مترجماً للغة الإنجليزية مع الزعيم دينج. وله كتاب شهير بعنوان: «اللمسة الصينية: ملاحظات وتأملات من خلال زيارة مائة دولة»، وقد باع كتابه «الزلزال الصينى» عام صدوره أكثر من مليون نسخة. قام الدكتور أحمد سعيد -الذى حصل على درجة الدكتوراه من جامعة نينشيا فى الشئون الصينية- بترجمة رائقة لكتاب «وى».. ضاعفت من جاذبية الكتاب لقراء العربية.
فى المناظرة التى خاضها «وى» ضد «فوكوياما» وسط حضور نخبوى كبير فى «شنغهاى».. انتقد المفكر الأمريكى النموذج الصينى، الذى لا يمكن اعتباره «نموذجاً» من الأساس. وأجمل «فوكوياما» هجومه على التجربة الصينية فى كون الصين بلداً غير ديمقراطى، لا يكترث بالحريات، ولا الحقوق الفردية، ولا يؤمن بالتعددية الحزبية أو الانتخابات الحرّة، كما أنَّه لا يعطى أىّ احترام لاستقلال الرأى وحرية الإعلام.
ثم مضى فوكوياما إلى بلورة محاور أخرى للهجوم: التجسس الصناعى الذى تمارسه الصين على الغرب، وسرقة الملكيّة الفكرية من دون أى التزام مالى أو أخلاقى، والنقل القسرى للتكنولوجيا. وكذلك الإعانات الحكومية الكبيرة لعدد من الصناعات.. فضلاً عن فرض قيود صارمة على الشركات الأجنبية، بالإضافة إلى الغشّ والتزييف فى التزام الصين أمام منظمة التجارة العالمية.
ثم مضى «فوكوياما» ليعطى توقعات غير جيدة لمستقبل الصين، ذلك أنه بحلول عام 2050 سيكون فى الصين (400) مليون متقاعد، وهو ما يعنى تباطؤ النمو فى الأجيال القادمة، كما أن صعود مؤشر التعليم واتساع الطبقة الوسطى سوف يؤدى إلى ضغوط سياسية على النظام، وقد تأتى «الثورة» القادمة فى الصين من هذا القطاع. يقول فوكوياما: «حين كنت أدرس فى جامعة ستانفورد كان من بين ما درستُ كتاب لأستاذى «صمويل هنتنجتون» بعنوان «النظام السياسى فى مجتمعات متغيرة».. وفيه يرى أستاذنا هنتنجتون أن الثورات لا تشعلها الطبقات الفقيرة، ولكن تشعلها الطبقة الوسطى، حيث تزيد الفجوة بين توقعاتهم وقدرة النظام على الاستجابة، وهو الأمر الذى يقود إلى عدم الاستقرار السياسى.
ثم يقول فوكوياما: فى رأيى.. فإن نمو الطبقة الوسطى ليس ضماناً ضد التمرد. ولكنه سبب التمرد. ما حدث فى مصر عام 2011 كان بسبب نمو الطبقة الوسطى، وزيادة عدد خريجى الجامعات، ومقارنتهم أداء نظامهم بأداء النظم الأخرى. وعلى ذلك فإن احتمالات التمرد فى الصين إنما تأتى من الطبقة الوسطى وليس الفلاحين الفقراء فى الأرياف. هناك حوالى (7) ملايين خريج جامعى فى الصين كل عام. ولن يستطيع النظام تلبية مطالب هذه الطبقة الوسطى المتزايدة، وهو ما يعنى أن الانفجار قادم.
لقد جاءت ردود «تشانج وى وى» على انتقادات «فوكوياما» كاشفةً عن رؤية الصين لأمريكا ورؤيتها لذاتها. ويمكننا إيجاز محاورها على النحو التالى:
أولاً: الصين فى الدكتوراه والغرب فى الثانوية العامة. يرى «وى» أن الصين قد تجاوزت الغرب ونموذجه بمسافة كبيرة، وعدم إدراك الغرب لهذه الفوارق لا يعنى عدم وجودها. يقول: لقد تجاوزنا اليابان وألمانيا. وبينما كان النظام المصرفى لدينا سيئاً للغاية، وكانت الديون متعثرة السداد هائلة ومحبطة، فإنّ حصّة الصين اليوم من أكبر البنوك فى العالم هى الأعلى. وبينما توقع الغرب حدوث فوضى، فإن ما حدث هو المزيد من التقدم.
إن النموذج الصينى يمتلك لياقةً عالية، حيث يمكنه تحديد الأهداف، والتوصل إلى إجماع أفضل بكثير من النموذج الغربى. ففى مجال الطاقة المتجددة -مثلاً- تمكنت الصين خلال بضع سنوات من قيادة العالم فى طاقة الرياح والطاقة الشمسية، وصناعة السيارات الكهربائية.
نقارن -أيضاً- نموذج الصين ونموذج بولندا الغربى. فحسب مركز «بيو» الأمريكى تبلغ نسبة الصينيين الذين يشعرون بالرضا (72%)، بينما لا تزيد نسبة البولنديين على (13%). من الذى يجب أن يتعلم من الآخر إذن.. نحن أم أنتم؟.. عليك بزيارة مدينة «جدانسك» مسقط رأس حركة تضامن البولندية التى قادت الثورة- ثم قم بزيارة العاصمة وارسو.
انظر أيضاً إلى دول الثورات الملونة: أوكرانيا وجورجيا وقيرغيزستان، إن النتيجة بعد تحقيق كل المطالب هى: دولة فاشلة. عليك أن تقوم بزيارة هؤلاء جميعاً، تم توجّه بعدها لزيارة شنغهاى.. قل لى إذن: أى النموذجين هو مستقبل العالم؟
ثانياً: نجح الغرب بالحرب ونجحت الصين بالسلام. يقول «وى»: حين بدأت فرنسا طريقها إلى النهضة الصناعية كان عدد سكانها (20) مليون نسمة، وكان عدد سكان بريطانيا حين بدأت الثورة الصناعية فى القرن الثامن عشر (10) ملايين نسمة. أما الصين فقد انطلقت وعدد سكانها فوق المليار نسمة. ثم إن فرنسا وبريطانيا قد نهضتا بالغزو والحرب، وتأسست الصناعة فيهما على أساس الاحتلال. لكن الصين لم تحتل أىّ مكان ولم تقم بأىّ غزو!
ثالثاً: شنغهاى تتفوق على نيويورك. يقول «وى»: قرأتُ كتاباً لـ«بول كروجمان» الحاصل على جائزة نوبل فى الاقتصاد.. ذكر فيه أن «معدلات النمو الاقتصادى وخلق فرص عمل جديدة فى أمريكا طيلة العقد الماضى كانت بنسبة صفر فى المائة». هذا لم يحدث فى الصين، ذلك أن لدينا مبدأ المساءلة الاقتصادية وليس السياسية فقط. لا تتم ترقية أى مسئول فى أى مستوى إلى أعلى إلّا إذا ثبت أنه كان يعمل على تنمية الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة. هناك أيضاً المساءلة القانونية.. فى أمريكا فقد معظم الناس رُبع ثرواتهم بسبب أزمة 2008، ولم يتم تقديم شخص واحد للمساءلة. عندنا إذا حدثت خسائر تتم المساءلة القانونية لمن أهملوا. ثم يمضى «وى»: إذا لم يكن الدولار هو العملة الأساسية للاحتياطى الدولى -وهذا لن يستمر إلى الأبد- كان من الممكن إعلان «إفلاس أمريكا». لقد قمتُ بعملية حسابية بسيطة: هجمات 11 سبتمبر كلفت (1) تريليون دولار، وحرب أفغانستان والعراق (3) تريليونات دولار، وديون أمريكا (20) تريليون دولار. كان من الطبيعى أن تعلن أمريكا إفلاسها.
إن الصين تتفوق على أمريكا، وشنغهاى تتفوق على نيويورك. تفوقت الصين على أمريكا فى مجال الصناعات الصلبة: بناء القطارات السريعة، والمترو، والمطارات، والموانئ.. وكذلك مجال البرمجيات. هل أقول لك على معادلة حاسمة: إن متوسط عُمر الفرد فى شنغهاى أطول من متوسط عمر الفرد فى نيويورك بنحو أربع سنوات، وبينما تخاف أن تتريّض فى معظم نيويورك، تسير الفتيات فى شنغهاى فى منتصف الليل بلا خوف. لقد تعلمنا من الغرب، وسنستمر نتعلم. لكننا تفوقّنا، وسنستمر نتفوق.
رابعاً: حُكم مقاطعة فى الصين يعادل حكم عدة دول أوروبية. يقول «وى»: هناك ما يقارب (7) أسر حاكمة فى تاريخ الصين الطويل. كان عُمر الأسرة (250) سنة تقريباً.. أىْ إن عُمر أسرة حاكمة واحدة فى الصين كان أطول من كل تاريخ أمريكا.
إن حاكم مقاطعة فى الصين منصب كبير، المقاطعة تساوى أحياناً مساحة أربع أو خمس دول أوروبية. لا يمكن الصعود للمنصب الأعلى بسهولة، لا بد من سيرة ذاتية قوية جداً، وتاريخ متميز للغاية، ثم لا بد من الإجماع.. لذلك لن يكون هناك «جورج بوش صينى». إن الصين دولة حضارية، وهى عبارة عن دمج مئات من الدول على مدار تاريخها الطويل فى دولة واحدة. هذا النوع من الدول لا يمكنه تطبيق النظام السياسى الغربى بدون زيادة احتمالية تفككها. إن تاريخ الغرب المعاصر لا يتجاوز (200 - 300) سنة وعلى الرغم من ذلك فقد شهد العبودية والفاشية، وحربيْن عالميتيْن. لذلك لا أحد يضمن استمرار النظام الغربى الحالى مدى الحياة.
كانت تلك المناظرة بين «تشانج وى وى» و«فرنسيس فوكوياما» قبل إعصار كورونا الذى أغلق كوكب الأرض فى عام 2020. وربما كان المراقبون فى حاجة لجزءٍ ثانٍ من المناظرة بعد غروب الجائحة، وشروق الجديد فى هيكل النظام العالمى.
ترى النخبة الأمريكية أن الصين تمضى إلى طريق مسدود، وأن النظام الصينى غير الديمقراطى إلى زوال. وترى النخبة الصينية أن الولايات المتحدة قد فشلت فى تقديم نموذج سياسى أو قيمى، وأن النظام الغربى قد بدأ السقوط من أعلى الجبل.
فى تقديرى فإنّ نهائى كأس العالم للقوة قد يبقى كما هو، بين مثلث من دون ضلع رابع. بين أمريكا والصين اقتصادياً، وبين أمريكا وروسيا عسكرياً. والأغلب أن تبقى المسافات -أيضاً- كما هى، لكن جاذبية النموذج هى أكبر ما سيواجه التغيير فى عالم ما بعد كورونا.
لن تحكم الصين العالم وهو أمر ليس بجديد، ولكن أمريكا قد لا تعود لحكم العالم.. وهذا هو الجديد.