السياسة القضائية فى مواجهة فيروس كورونا
فى التاسع من مارس الحالى، صرح رئيس السلطة القضائية فى إيران بأنه تم الإفراج مؤقتاً عن نحو سبعين ألف سجين، لمكافحة تفشى فيروس كورونا فى السجون. وجاء هذا التصريح فى وقت تشهد فيه الجمهورية الإيرانية إحدى أسوأ الأزمات الصحية، إذ تشكل مدينة «قم» الدينية إحدى أخطر وأكبر بؤر انتشار المرض على مستوى العالم، وبحيث يمكن القول إنها تأتى فى المرتبة الثانية بعد مدينة «ووهان» الصينية، حيث نشأ المرض. وفى مقاله المنشور بجريدة «الوطن» يوم الأربعاء الموافق 11 مارس 2020م، تحت عنوان «أخطر ما فى كورونا: عدم تصديق أرقامه»، أشار الأستاذ عماد الدين أديب إلى أزمة السجون المزدحمة فى ظل تفشى فيروس كورونا.
وفى اعتقادنا أن خطة إدارة المخاطر فى القطاع القضائى يتعين أن تتضمن العديد من الإجراءات الوقائية وتفعيل بعض الآليات القانونية الرامية إلى الحد من تكدس المنشآت العقابية، وأول ما يمكن اللجوء إليه فى هذا الصدد هو خفض نسبة المحبوسين احتياطياً، من خلال التوسع فى تطبيق بدائل الحبس الاحتياطى، لا سيما أن بعض هذه البدائل قد تشكل نوعاً من الحجر الصحى أو العزل المنزلى بما يسهم فى الحد من انتشار المرض. بيان ذلك أن المادة (201) من قانون الإجراءات الجنائية تخول للسلطة المختصة بالحبس الاحتياطى أن تصدر بدلاً منه أمراً بإلزام المتهم بعدم مبارحة مسكنه، أو إلزامه بأن يقدم نفسه لمقر الشرطة فى أوقات محددة، أو حظر ارتياد المتهم أماكن محددة. وفى هذا الصدد، أرى من الملائم دعوة المشرع المصرى إلى النص على المراقبة الإلكترونية كبديل إضافى للحبس الاحتياطى.
وإذا انتقلنا من مرحلة التحقيق الابتدائى إلى مرحلة المحاكمة، فقد يكون من الأنسب خفض نسبة الأحكام القضائية الصادرة بعقوبة الحبس قصير المدة، والاستعاضة عنها ببعض البدائل التى تسمح بها نصوص التشريعات السارية، مثل عقوبة الغرامة وعقوبة المراقبة الإلكترونية وتدبير الخدمة المجتمعية أو العمل للمصلحة العامة. ويدعم هذا الأمر أن عمليات مكافحة المرض قد تتطلب اعتمادات مالية إضافية، يبدو من الصعب توفيرها فى العديد من دول العالم الثالث. ولعل القارئ العزيز قد قرأ مؤخراً فى وسائل الإعلام خبراً عن قيام إيران بطلب مساعدة مقدارها خمسة مليارات دولار من صندوق النقد الدولى لمكافحة «كورونا». أما عقوبة المراقبة الإلكترونية، فإن تطبيقها بدلاً من عقوبة الحبس قصير المدة يؤدى إلى الحد من تكدس السجون، وتعد فى الوقت ذاته نوعاً من الحجر الصحى أو العزل المنزلى الكفيل بالحد من انتشار الفيروس. ويكفل تطبيق عقوبة الخدمة المجتمعية كبديل لعقوبة الحبس قصير المدة، تأهيل وتجهيز ومشاركة العديد من المتطوعين لمساعدة فرق الإسعاف والطواقم الطبية. وتبدو أهمية هذا الإجراء فى ضوء تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأن أكثر من نصف الشعب الألمانى معرض للإصابة بالفيروس، وهو عدد كبير لا يمكن للطواقم الصحية التقليدية أن تضطلع بمسئولياتها تجاهه.
بالإضافة إلى ما سبق، نرى من المناسب أن يقتصر تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة بالإدانة على المجرمين الخطرين، ويتم تأجيل التنفيذ بالنسبة للأحكام الصادرة بعقوبات الحبس قصير المدة. بيان ذلك أن قوانين الإجراءات الجنائية فى الدول العربية تجيز تأجيل تنفيذ العقوبة السالبة للحرية، إذا كان المحكوم عليه مصاباً بمرض يهدد بذاته أو بسبب التنفيذ حياته بالخطر، وهذا النص يفترض إصابة المحكوم عليه فعلاً بمرض يهدد حياته بالخطر، كشرط لتأجيل تنفيذ العقوبة المقيدة للحرية. ولكن، وفى ظل تفشى فيروس كورونا، قد يكون من الملائم تأجيل تنفيذ العقوبات البسيطة، دون انتظار إصابة المحكوم عليه فعلاً بالمرض، منعاً لتكدس المنشآت العقابية. من ناحية أخرى، فإن قوانين الإجراءات الجنائية فى الدول العربية تجيز تأجيل تنفيذ العقوبات السالبة للحرية، إذا كانت المحكوم عليها حبلى فى الشهر السادس من الحمل. فإذا كانت فى الأشهر الأولى من الحمل، فإن تنفيذ عقوبة الحبس يغدو جائزاً قانوناً. ولكن، وبالنظر لما ثبت علمياً بأن فيروس كورونا يهدد بوجه خاص الأطفال وكبار السن والحوامل، فقد يكون من الملائم اتخاذ قرار استباقى بتأجيل تنفيذ العقوبات السالبة للحرية على السيدات الحوامل، أياً كانت مدة الحمل، ولو كانت أقل من ستة أشهر. كذلك، ورغم أن القوانين السارية لم تتضمن نصاً بتأجيل تنفيذ العقوبات السالبة للحرية على كبار السن، فقد يكون من المناسب اتخاذ قرار فى هذا الشأن، توقياً لأخطار كورونا على صحة هذه الفئة من المحكوم عليهم. والله من وراء القصد.