سفراء الرحمة من الأطباء

حسين القاضى

حسين القاضى

كاتب صحفي

تعد قيمة الرحمة من القيم المركزية الكبرى والجوهرية، وهى أساس رسالة النبى الكريم -صلى الله عليه وسلم- «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، والرحمة إطار واسع تنبثق منه منظومة التصرفات الإنسانية، وتتسع للجميع، المسلم وغير المسلم، وهو ما يذكره المؤرخون من أن الرحمة حين تحولت من كلمة إلى قيمة إلى مؤسسة إلى حضارة لم تكن مقصورة على المسلمين فقط، بل شاركهم مسيحيون أطباء بارعون، مثل «جورجيس بن بختشيوع»، الذى استقدمه الخليفة المنصور فصار طبيبه الخاص إلى أن تُوفى، وابنه «بختشيوع» الذى استقدمه الخليفة المهدى، وكان ماهراً فى صناعة الطب. ولم تكن الرحمة التى مثَّلها الأطباء صفحة تاريخية وانتهت، بل برزت اليوم صفحات مضيئة لأطباء كبار أسسوا لقيمة الرحمة، وحولوها إلى مؤسسة، وأوضح نموذج فى ذلك الدكتور «مجدى يعقوب»، فأعماله الجليلة العظيمة ترفعه إلى مصاف الرحماء بالناس. وبرز كسفير للرحمة العالم المصرى الدكتور «مجاهد الطلاوى»، الذى قال فى حفل تكريمه فى الإمارات: «أسعد لحظة فى حياتى حينما أرى البسمة على وجه يتيم، فذلك أفضل من الأولاد والمال والدنيا كلها»، وتبرع بالجائزة التى حصل عليها وقدرها 5 ملايين درهم إماراتى، وذكر سببين يجعلانه يواصل عمله بلا تراخٍ، أولهما: أنه رأى ثمرة الخير الذى صنعه فى تلاميذه، وثانيهما أنه رأى ثمرة عمله ذلك فى أولاده الذين أصبحوا أساتذة كباراً فى كليات الطب.

ويذكر الطبيب والكاتب الدكتور «ناجح إبراهيم» أن الدكتور «مجاهد» هو الطبيب الوحيد فى مصر الذى لم يتجاوز أجر الكشف لديه عشرة جنيهات، بعد أن مكث فترة طويلة لا يجاوز جنيهين، فسُمى «طبيب المساكين والفقراء»، وأوصاه والده قبل تخرجه فى طب القاهرة بوصية حافظ عليها: «يا بنى.. المرضى سلموا لك أغلى ما عندهم، فلا تكن للأمانة خائناً»، ولذلك فحص قرابة مليونى مريض مع فريقه المساعد المكون من أولاده الستة وتلاميذه طوال 30 عاماً، ما بين فحص وعلاج وتحويل وجراحات، وقام بدعم الطلبة اليتامى فى قريته. والدكتور «ناجح إبراهيم» الكاتب المعروف فى جريدة «الوطن» وفى غيرها من الصحف، وصاحب المؤلفات المهمة فى مواجهة العنف والتطرف، هو أيضاً طبيب رحيم، رفيق بمرضاه، يقدم خدمات مجانية كثيرة، وهذا موضوع يحتاج إلى مقال منفرد. وبرز كسفير للرحمة العالم الكبير الدكتور «محمد غنيم»، رائد زراعة الكلى فى مصر والشرق الأوسط، وجهوده معروفة على المستوى المحلى والعالمى، فكان علامة من علامات الرحمة بالمرضى، وقال يوم مناقشته لكتاب «مع الدكتور محمد غنيم.. السعادة فى مكان آخر» لمؤلفه الدكتور محمد المخزنجى: «أجريت مع زملائى أول عملية لزراعة الكلى فى المنصورة، وكُللت بالنجاح، ولكنى اكتشفت أن طموحاتنا فى الطب لا يمكن أن تتم تحت رئاسة الجامعة، فحصلت على منح من دول أجنبية لإنشاء مركز المنصورة لزراعة الكلى، والمركز منذ إنشائه يقدم العلاج بالمجان، بنسبة 90% لمرضاه، وعالج معظم رؤساء وزراء مصر، ودبلوماسيين وزعماء من الخارج». وبرز أيضاً العالم الجليل الأستاذ الدكتور «رشاد برسوم» أحد عمالقة الرحمة فى الطب المصرى، الذى ظهرت فيه منظومة القيم والأخلاق والرحمة، ودوره فى مستشفى قصر العينى فى القاهرة معروف مشهور، وكذا فى مركز الملك فهد بن عبدالعزيز بالسعودية، وهو مؤسس الاتحاد الأفريقى لأمراض الكلى.

إنه خلق عظيم هو خلق الرحمة، الذى اشترك فيه المسلمون جنباً إلى جنب مع إخوانهم المسيحيين فى صناعة الحضارة، وتخفيف الآلام على مدار التاريخ، ما يدل على أن هذه الحضارة وتلك القيمة نسق إنسانى واسع، يتسع للناس مهما اختلفت مذاهبهم وعقائدهم.