السلام فى ليبيا والمسئولية الأممية

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

من المنتظر أن يجتمع فريقان من العسكريين الليبيين برعاية أممية للبحث فى تحويل الهدنة التى بدأت فى ١٢ يناير الجارى إلى وقف إطلاق نار دائم وفقاً لمقررات مؤتمر برلين حول التسوية السياسية فى ليبيا، الفريق الأول يمثل الجيش الوطنى الليبى، والثانى يمثل المجموعات المسلحة الداعمة لحكومة «السراج». ورغم أن هذه الصيغة تنطوى على مساواة ظالمة بين مؤسسة عسكرية وطنية بمجموعات مسلحة تستعين بمرتزقة وإرهابيين، فقد قبلها الجيش الوطنى ليثبت التزامه بالحل السياسى إذا تم ربطه بإنهاء وجود الميليشيات والمرتزقة القادمين من تركيا، وهو شرط لا غنى عنه كما جاء فى مقررات برلين، إضافة إلى حظر شامل لتوريد الأسلحة إلى الداخل الليبى، تتبعهما خطوات للحل السياسى بداية من تسريح كافة العناصر الأجنبية وإنهاء وجود الميليشيات التى تدعم حكومة «السراج»، ودمج العناصر المؤهلة منها فى الجيش الوطنى والمؤسسات الأمنية بعد توحيدها وفقاً لوثائق القاهرة ذات الشأن، وإعادة تشكيل الحكومة بهدف خلق كيان تنفيذى موحد، على أن يأخذ ثقة البرلمان المعترف به دولياً، ويكون من مسئولياته إدارة شئون البلاد وفقاً للمبادئ الدستورية المتفق عليها.

فى ظل هذا السياق الشامل يصبح نجاح اجتماع العسكريين أو فشلهم مؤشراً قوياً على ما سيحدث بشأن مجمل ما اتفق عليه المجتمعون فى برلين، وهم الذين يمثلون القوى الدولية والإقليمية الأكثر ارتباطاً بالوضع الليبى مع فارق مهم بين من يقف بشرف، وهم قلة محدودة، مع جهود الليبيين الشرفاء فى بناء دولتهم ويؤمن بحقهم فى الحرية والأمن، وهؤلاء الذين يبحثون عن مصالح غير مشروعة ويسعون إلى استنساخ ماضٍ استعمارى بغيض، وآخرين مترددين فى التمسك بموقف قوى وواضح ضد جلب الإرهابيين والمرتزقة إلى بلد جار، ومن لا يرون سوى مصالحهم الضيقة ويتجاهلون أصحاب الحق.

وكأى تصور جماعى بين توجهات مختلفة تسير عليه البعثة الأممية، فإن الخطة فى حد ذاتها ليست هى العنصر المهم رغم ضرورة ذلك، بل فى التزام الأطراف بها، والعمل على تطبيقها بحسن نية ورغبة صادقة لإنهاء الصراع، وبناء سلام حقيقى يستحقه الليبيون جميعاً بعيداً عن تجار الحروب ومتعهدى إرسال المرتزقة والخونة، والمهووسين بلعب دور أكبر من حجمهم الحقيقى.

الالتزام هنا يتطلب بالفعل انغماساً أكبر للمنظمة الدولية والقوى الراغبة فى السلام، فقرارات اجتماع برلين بحاجة ماسة وسريعة أولاً لتحويلها إلى قرار دولى ملزم للمجتمع الدولى بأسره، على أن يوضع تطبيقه تحت مظلة البند السابع الذى يعطى مجلس الأمن الحق فى فرض عقوبات على هؤلاء الذين احترفوا توريد الإرهابيين إلى مناطق الصراع بهدف فرض أمر واقع ينهبون من خلاله الموارد الليبية بغير حق. وهنا تأتى أهمية إنشاء قوة رقابة دولية يصدر بها قرار ملزم من مجلس الأمن تتابع وتراقب حظر السلاح من جهة، وتطبق البنود المتعلقة بتسريح الميليشيات وإخراج العناصر الإرهابية التى صدّرتها تركيا فى الشهرين الماضيين من كل الأراضى الليبية من جهة أخرى، وأن يكون من حقها تقديم توصيات لمجلس الأمن بتوقيع عقوبات فورية على المخالفين سواء كانوا أطرافاً محلية أو إقليمية.

واقع الأمر أن هذه المهام ليست هينة وسوف تتطلب حوارات متواصلة فى أسرع وقت ممكن، وما دام ممثلو القوى الخمس الكبرى، صاحبة حق النقض فى مجلس الأمن، شاركوا فى الرؤية الصادرة عن مؤتمر برلين، فالمنطق يقول إن من الضرورى إصدار قرار من مجلس الأمن يدعم هذه القرارات بإجراءات تطبيقية فورية، ومع ذلك فعلينا أن نتحسب من مناورات قوة هنا أو أخرى هناك بهدف تمييع المواقف وإطالة أمد الأزمة، ومنع تطبيق حظر الأسلحة إلى الداخل الليبى أو إخراج المرتزقة السوريين والإرهابيين المدعومين من «أنقرة» علناً. وهنا يأتى دور القوى المحبة للسلام سواء الليبية أو العربية أو الدولية فى متابعة الحشد الدولى والإقليمى من أجل سرعة تطبيق هذه البنود بكل شفافية ودون أدنى تراجع.

فى السياق ذاته، فإن الحاجة إلى إنهاء الانقسام السياسى والتنفيذى وإنشاء حكومة جديدة تتمتع بتأييد مجلس النواب وفق المبادئ الدستورية لا يقل أهمية عن ضبط الأوضاع الأمنية، فبدون حكومة يقبلها الليبيون أنفسهم وتكون معبرة عن حقوقهم فى السلام والاستقرار والحياة الكريمة، قادرة على أن تحمى البلاد والعباد وتمنع تحولها إلى تكية عثمانية، فإن عملية التسوية وبناء السلام لن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام. وهنا فإن عنصر الثقة المفقودة بين طرفى الصراع الرئيسيين يتطلب معالجة خاصة، فمعنى أن يُعاد تشكيل الحكومة أن مصير «السراج» ورفاقه التابعين لـ«أنقرة» سيكون فى مهب الريح، ولذا فالمتوقع أن يعمد «السراج» إلى المماطلة وإلى فتح أبواب «طرابلس»، مستفيداً من الهدنة القائمة، أمام المزيد من المرتزقة والإرهابيين، وأن يحول غرب ليبيا إلى مرتع عثمانى بكل معنى الكلمة، وأن يبادر بالتوقيع على تفاهمات غير قانونية تعطى حقوقاً وامتيازات لـ«أنقرة» وقطر دون وجه حق وعلى حساب الموارد الليبية. وهو ما يجب معالجته بكل حسم، من خلال القرار الدولى المنتظر صدوره من مجلس الأمن، على أن يتضمن بنداً صريحاً يمنع «السراج» من اتخاذ أى قرارات أو توقيع أى اتفاقات ذات طابع سيادى، وأن يترك الأمر كله إلى الحكومة الجديدة التى ستشكل لاحقاً، وإذا حدثت المراوغة من «السراج» فيعلن العالم أجمع أنها أفعال غير قانونية ولا مجال للاعتراف بها.

ثمة متضررون من إحلال السلام فى ليبيا، ومتضررون من أن تعود الدولة بمؤسساتها الفاعلة والقادرة على السيطرة على كل المفاسد التى تمت فى العاصمة وما حولها، ومتضررون من وقف التدخلات التركية عند حدها، ومتضررون من الخضوع للقانون والمساءلة والحساب عند الخطأ. وهؤلاء يمثلون العبء الأكبر فى المواجهة المنتظرة. فلن يكون سلام دون تماسك شعبى ليبى ووقوف وراء المسئولين والسياسيين والنواب الذين أثبتوا أنهم ليبيون قلباً وقالباً، وحريصون على مصالح البلاد والعباد، ويؤمنون بسيادة ليبيا على مواردها وبعدالة توزيع ثرواتها على الليبيين جميعاً دون استثناء. فمثل هؤلاء يمثلون حائط الصد الأول أمام المراوغات المنتظرة من «السراج» و«أردوغان»، التى بدأت مقدماتها فى الظهور. وإذا كان الصراع العسكرى يتطلب تضحيات ووعياً كاملاً بما يجرى، فإن الصراع السياسى والمفاوضات تتطلب تضحيات أكثر ووعياً أكثر وطنية.

ثمة متضررون من إحلال السلام فى ليبيا، ومتضررون من أن تعود الدولة بمؤسساتها الفاعلة والقادرة على السيطرة على كل المفاسد التى تمت فى العاصمة وما حولها، ومتضررون من وقف التدخلات التركية عند حدها، ومتضررون من الخضوع للقانون والمساءلة والحساب عند الخطأ