حكاية دبى مع الإعلام

تعطينا دولة الإمارات العربية المتحدة مثلاً فريداً فى إدارتها لمنظومتها الإعلامية، فرغم أن تلك المنظومة عملت منذ إنشائها فى إطار من المحددات والقيود يتشابه مع غيره من الأطر المؤثرة فى معظم الدول العربية، فإنها مع ذلك استطاعت أن تحقق اختراقاً كبيراً يصعُب التشكيك فيه.

لا يمكن القول إن المنظومة الإعلامية الإماراتية خالية من أى نقص أو خطأ بطبيعة الحال، ومع ذلك، فإن حجم الإنجاز الذى تحقق فى هذا الصدد يشير إلى وجود استراتيجية ناجعة، وإرادة سياسية واضحة، وقدرة لافتة على توظيف الموارد الضخمة، وتسخيرها لخدمة الهدف الأعلى، الذى يبدو أنه تحقق بوضوح.

تنظر الإمارات إلى الإعلام بوصفه إطاراً يجب التمركز فيه والنفاذ عبره من أجل تحقيق المصلحة الوطنية، وبناء سمعة الدولة، وتعزيز قوتها الناعمة، وهى من أجل ذلك لا تكتفى بتوفير الموارد الضخمة، ولكنها أيضاً تتبع نهجاً مؤسسياً لإدارتها، ولا تتوقف عن اجتراح الجديد فى هذا الصدد.

خلال الشهر الجارى، احتفلت دبى باختيارها عاصمة للإعلام العربى فى عام 2020، وبمرور عشرين عاماً على تأسيس «نادى دبى للصحافة»، وهو الاحتفال الذى كان مناسبة لاستعراض عناصر المنظومة الإعلامية الإماراتية عموماً، ومنظومة إعلام دبى خصوصاً، وهى منظومة جعلت من دبى عاصمة الأمر الواقع للإعلام العربى، إثر جهد وافر ومطرد بُذل على مدى عقدين من الزمان، من أجل تحقيق هدف كبير محدد سلفاً.

لا يمكن الحديث عن التطور الكبير الذى طرأ على إعلام الإمارات عموماً، وإعلام دبى خصوصاً، من دون تذكر البدايات المبكرة، التى صنعتها رؤية ثاقبة لزعيم من طراز فريد هو الشيخ زايد، مؤسس دولة الإمارات.

يعطينا الشيخ زايد مثلاً جلياً للحديث عن دور رجل الدولة فى إرساء منظومة إعلامية تشبه مجتمعها، مناقب وسياسات، وتتعامل مع انشغالاته، وتلبى حاجته لمواجهة التحديات، وتعزيز الفرص، وإيصال الصوت إلى العالم، وتعزيز المكانة.

سعى «زايد» إلى تسخير الإعلام فى تحقيق الأهداف الوطنية، وتقديم بلاده إلى العالم، من خلال منظومة إعلامية ولدت فتية، ففى شهر أغسطس من عام 1969، أنشأ صحيفة «الاتحاد»، قبل ميلاد الاتحاد، إذ عرف حاكم أبوظبى، وصاحب الرؤية الاتحادية آنذاك، أن مستقبل شعبه وبلاده لن يتحقق على النحو الأمثل من دون بناء اتحاد متماسك قابل للاستدامة والازدهار، ولهذا فقد اختار هذا العنوان/ الهدف/ الرؤية للصحيفة العامة الأولى.

أسس «زايد» الإذاعة فى عام 1968، كما أطلق تليفزيون أبوظبى، وأشرف وساند وحض الكثير من الأفراد والمؤسسات على إطلاق وسائل إعلام، لتشكل منظومة إعلامية متكاملة وفاعلة.

كان «الاتحاد» هو الركيزة الأولى فى المنظومة الإعلامية الوطنية، ولذلك، فقد اتفق المحتوى المقدم عبر الوسائط الإعلامية الإماراتية، على إحياء أفكار الولاء، والانتماء، والمواطنة.

وعلى الفور، برزت الركيزة الثانية لهذه المنظومة مركزة على فكرة «التنمية»، البعيدة تماماً عن الإثارة والابتذال والحس التجارى، أما الركيزة الثالثة فتمثلت فى التركيز على ما يمكن تسميته بـ«الإعلام الإيجابى»، الذى يسعى إلى تسليط الضوء على المبادرات الجادة ومناطق الإنجاز، وصولاً إلى الركيزة الرابعة المتمثلة فى النهج المؤسسى.

ثمة إدراك كبير فى الإمارات عموماً، ودبى خصوصاً، لأدوار المؤسسات فى ترسيخ صناعة الإعلام الجادة والمسئولة والناجحة، وإمدادها بفرص البقاء والاستدامة والنمو والقدرة على تحقيق الأهداف الوطنية.

إن الاحتفال بمرور عشرين عاماً على إنشاء «نادى دبى للصحافة»، واستمرار هذا النادى فى عمله، الذى يخدم من خلاله الإعلام العربى والعاملين فيه، وتطوره وزيادة أنشطته ومجالات عمله، يمثل دليلاً واضحاً على نجاعة النهج المؤسسى.

فسرعان ما أطلق «نادى دبى للصحافة» آليتى عمل إقليميتين فاعلتين، أولاهما تمثلت فى «منتدى الإعلام العربى»، الذى يعقد سنوياً بمشاركة آلاف الخبراء والأكاديميين والعاملين فى صناعة الإعلام فى المنطقة العربية والعالم، ويمثل أفضل منتدى عربى جامع للنقاش والبحث وتداول الأفكار المتعلقة بالإعلام، وثانيتهما تمثلت فى «جائزة الصحافة العربية»، التى انطلقت قوية، وراحت تتطور باطراد، ليفوق عدد المشاركات بها الخمسة آلاف مشاركة سنوياً، وتتحول إلى أفضل آلية لتحفيز الوسط الإعلامى العربى على إنتاج المواد الإعلامية بشكل مهنى واحترافى.

لم يمر الكثير من الوقت حتى أنشأت دبى «مدينة دبى للإعلام»، وهى المدينة التى ظهرت فى العام 2001، وقدمت الفرص السانحة لمؤسسات الإعلام العربية الغربية لتعمل من خلالها، وتستفيد من تسهيلاتها، حيث باتت تضم مقرات رئيسية ومكاتب لمؤسسات مثل «بى بى سى»، و«أب»، و«أ ف ب»، و«بلومبرج»، و«سى إن إن»، و«إم بى سى»، وغيرها من المؤسسات الإعلامية البارزة. استطاعت هذه المدينة، عبر قدر من الانفتاح معتبر فى ظل بيئة إقليمية ودولية شائكة، أن تستقطب المزيد من المؤسسات للعمل فيها يوماً بعد يوم.

وفى عام 2003، تم إنشاء «مدينة دبى للإنتاج»، وهى عبارة عن منطقة حرة مخصصة لأنشطة الإنتاج الإعلامى، تتاح من خلالها الفرص لبيوت الإعلام العالمية لاستغلال التسهيلات الكبيرة لإنتاج موادها الإعلامية، وبمرور الوقت بات الجمهور العالمى يستمتع بمشاهدة منتجات جذابة تم إنتاجها فى هذه المدينة.

لم تتوقف دبى عن تعزيز نهجها المؤسسى لخدمة صناعة الإعلام، إذ أنشأت فى عام 2005 «مدينة دبى للاستوديوهات»، على مساحة 22 مليون قدم مربعة، وهى المدينة التى استطاعت أن تجذب عدداً كبيراً من مؤسسات الإنتاج الإعلامى العالمية المرموقة للعمل خلالها، اعتماداً على وجود المناخ المناسب للعمل، والتسهيلات الإنتاجية واللوجيستية الفائقة.

واليوم، وعبر التزام النهج المؤسسى، باتت نحو 4000 شركة إعلامية متخصصة من جميع أنحاء العالم، وأكثر من 33000 مهنى متخصص يعملون فى هذه المدن الثلاث.

وعندما بدأت إمكانيات «السوشيال ميديا» تتعاظم، وراح تأثيرها يتضاعف، أطلقت دبى «قمة رواد التواصل الاجتماعى» فى عام 2015، قبل أن تطلق «جائزة رواد التواصل الاجتماعى»، وتؤسس نادياً لهم.

عبر هذه الأذرع الثلاث دخلت دبى إلى عالم المؤثرين الجدد، وباتت لديها منصة دائمة لهم، وجائزة لأبرز الفاعلين بينهم، وقمة لمناقشة التطورات المتسارعة فى عالمهم.

تلك قصة موحية وملهمة، يمكن أن تساعد الراغبين فى اجتراح هذا المجال الحيوى وعظيم الأثر، إذا امتلكوا الرؤية والمثابرة، والتزموا النهج المؤسسى.

لم تتوقف دبى عن تعزيز نهجها المؤسسى لخدمة صناعة الإعلام إذ أنشأت فى عام 2005 «مدينة دبى للاستوديوهات» على مساحة 22 مليون قدم مربعة وهى المدينة التى استطاعت أن تجذب عدداً كبيراً من مؤسسات الإنتاج الإعلامى العالمية المرموقة للعمل خلالها اعتماداً على وجود المناخ المناسب للعمل والتسهيلات الإنتاجية واللوجيستية الفائقة.