بالفيديو.. المرأة والساطور.. الأيادي الناعمة تحكم مدبح إمبابة القديم

بالفيديو.. المرأة والساطور.. الأيادي الناعمة تحكم مدبح إمبابة القديم
بملابس ملطخة بالدماء أمسكت بساطور حاد وقطعت عرض الشارع واقفة بكل ثبات تصيح في الحاضرين "نزّل يا واد انت وهو البضاعة بسرعة"، ورغم محاولاتها الجادة في أن تخفي كثيرًا من أنوثها، حتي اكتسب صوتها غلظة لم تكن تعرفها من قبل، لكن شيئًا ما يصر على أن يُظهر الأنوثة المدفونة داخلها.. ذلك الخاتم الذهبي الذي يلمع وسط دماء الذبيح يشي بسيدة لم تعش أجمل سنوات عمرها، وتلك الطرحة التي ذيلتها بعض الفصوص اللامعة كانت دليلًا على ذوق نسائي تدلى خلف جلباب ذكوري ارتدته كي تتمكن من أن تثبت مكانتها في عالم لغته الوحيدة هو "السيف والساطور".
هوايدا: اتعلمت الجزارة منذ الطفولة
"هوايدا" التي بارزت الرجال في أكثر المهن قسوة، اكتسبتها بفعل الوراثة أبًا عن جد، باتت كتفًا إلى كتف أخواتها الشباب، لكن صوتها وسطوتها بالمذبح تشي بسيادتها للموقف، هي الآمر الناهي في فرشة الجزارة، وهي صاحبة الكلمة الأولي والأخيرة، تبدأ يومها منذ أن يشق النهار خيطه في السماء، تقوم من نومها وتستعد لرحلة معتادة من الشقاء، تحمل من السكاكين والسواطير ما تحتاجه في ذبح الجمال، تدخل المجزر بشموخ اعتادته، مؤمّنة نفسها ببعض الأدوات البسيطة التي تؤهلها للعمل بحرية، جلباب فضفاض يشبه زي الرجال تعقده من الأسفل حتي لا تلمس أطرافه أرضية المجزر، يكشف عن "بنطلون" دسته في "كزلك" بلاستيكي يمكنها من التحرك دون حذر.
تقف في انتظار الجمل لتبدأ مهمتها المعتادة في ذبحه ثم تقطيعه وتقسيمه، ورغم جسدها الضعيف لكنها تمكنت من إثبات مكانتها بين الآخرين، ليصبح اسمها معروفًا بين العمال.. بقلب لم يعد يشغله إلا إدارة بيتها والعمل على توفير احتياجات أبنائها الاثنين، بعدما فقدت عائلها قبل سنوات فأصبحت بعده الأم والأب، تُعلم أولادها كيفية مساعدتها في مهنة ورثتها أبا عن جد، وظل المثل الشعبي المعروف "اللي ليه عنين وراس يعمل عمايل الناس" قاعدتها حتي تمكنت من المهنة وعرفت كل أسرارها،
تواجه هوايدا، ذات الأربعين ربيعًا، مواقف صعبة كل يوم لكن الأصعب على حد تعبيرها عندما تتعرض إحدى المواشي إلى ذبح غشيم : "الكل بيستخبى ويجري خايف منها رجالة أو ستات.. لأن الذبيحة بتهيج في كل اللي قدامها وممكن تموت حد".
تتجنب هوايدا نظرات المجتمع السلبية وتضع احترامها وتقدير الآخرين لها نصب عينيها، تقول: "الست لازم تقف باحترامها علشان مايكونش فيها الطمع.. الشغل ده لو واحدة وقفت تهزر ممكن تموت فيها لأن كل شغلتها بالساطور والسكاكين".
لكل موسم استعداداته أبرزها شهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى، وهي الفترة الأكثر ضغطًا في العمل والتي تتطلب منها مجهودًا مضاعفًا من الالتزام وتحمل أوقات أطول في العمل قد تمتد لساعات طويلة.
وسط كل ذلك، تعتبر هوايدا أن منزلها مملكتها الخاصة، هو مساحة الضحك والمرح لها ولأسرتها وكذلك الترفيه، وتعود إليه كل يوم لتستكمل واجباتها اليومية نحو ولديها، من تجهيز الطعام وغسل الملابس وترتيب المنزل.
عبير: ما نستش هوايتي وبرسم بالخيط رغم مهنتي القاسية
إصاباتها المتنوعة من الجزارة لم تثنيها يومًا عن تلك المهنة، هي عبير فاضل، في أوائل الأربعينيات من عمرها، التي ما يزال جرح قديم يحفر أثره علي يديها ليذّكرها دائمًا بتلك المرة التي شق فيها السكين كفيها، ما جعلها تعيش تجربة قاسية في بداية عملها، بحسب ما قالت: "كانت صعبة جدا ولسه سايبة أثر".
لكن مهنة الأب التي تعلمتها وأتقنت كثيرًا منها هي مصدر دخلها الوحيد ووسيلة مساعدة لدخل زوجها الذي يعمل سائقًا، عبير التي تجمعها "فرشة" واحدة مع أختها هوايدا، لم تفكر يومًا في أن تأخذ خطوة نحو الذبح، فبحسب ما تقول: "ماليش في الذبح.. لكن بقطع اللحمة وأشّفي وأضبط الكوارع أو الراس".
عملها بالجزارة لم يُنسها يومًا هوايتها التي تحرص على أن تقوم بها من حين لآخر، تغسل يديها من أثر الدماء، بعد انتهاء يومها بالمجزر، لتبدأ في طهي طعام الغذاء فتضعه أعلى موقد النار، وتخصص وقتًا من راحتها لممارسة موهبة أتقنتها منذ الصغر، فتمسك بأحد المفارش الذي بدأته قبل أيام وتذيله بورود رسمتها بالخيط وتعقد العقدة الأخيرة، وهي تتحدث عن مهنتها، واصفة إياها بـ"القاسية".
يوم عبير ممتلئ بكثير من المواقف لكن أكثرها حدة هي وقت جلوسها في السوق أمام منضدة كبيرة، يعلوها ميزان، يمتلأ عن آخرها بما يعرف بـ"عفشة الجمل"، فيما تظل أقدامه والمعروف بـ"الكوارع" في انتظار ساطورها، لتبدأ مهمة تقطيعه ثم بيعه للزبائن، وتحاول بين تارة وأخرى أن تهش جانبًا من الذباب المنتشر بواسطة عصا خشبية خُصصت لتلك المهمة.
تحكي عبير عن رحلتها اليومية من منزل الزوجية الي مذبح إمبابة القديم حيث مقر عملها هي وأسرتها التي تعمل بالجزارة منذ عشرات السنين، وتقول: "هي دي عيشتي.. اتعودت عليها ومابقتش أقدر أستغني عنها.. هي مصدر دخلي.. بساعد جوزي في البيت زي أي ست بتشتغل"، لا تعرف من حكاياتها الدائمة عن زوجها من فيهما سندا للآخر، كلاهما يعمل بجد من أجل تربية الأبناء تربية جيدة.
أم محمود: وجدت حب عمري في المدبح
في شارع المذبح القديم بإمبابة تظل السيدات العاملات في الجزارة علامة بارزة فيه، لكن أكثرهم حنكة وخبرة هي المعلمة أم محمود، لديها قصة مختلفة عن غيرها من الجزارات، إذ بدأت حياتها منذ الطفولة في المجزر القديم بإمبابة، وكانت تحمل على أكتافها الذبائح مثلها مثل الرجال، لكن شيئًا ما تغير في حياتها بدخول الرجل الذي أحبته وأحبها إلى المجزر، فنشأت قصة حبهما بين الذبائح والدماء السائلة حتي تزوجا وأنجبا من الأطفال أربعة، تقول:" أنا وهو اتعرفنا على بعض وحبينا بعض وخطبني واتجوزنا ومن يوميها واحنا مع بعض على الحلوة والمرة بقالنا 35 سنة".
تنهي مني حديثها عن قصة ارتباطها بزوجها بضحكة رنانة وكلمات اعتادت أن تقولها عنه "حب في المدبح"، وتتابع الحديث عن تجربتها التي قدمت خلالها الدعم لأسرتها الصغيرة ولعائلتها الكبيرة طوال الوقت، تقول: "أنا زمان نزلت اشتغل علشان أساعد أبويا وأسرتي.. كنا كلنا بنات ولازم نتعلم الصنعة.. وبقيت أشيل فوق كتافي اللحم والذبيحة، وأشتغل زي الرجالة وأحسن".. ورغم ذلك لا تخفي مني رأيها عن المهنة وتعبر عنه بمنتهي الوضوح بقولها: "دي مهنة رجالة.. واحنا أحسن من ميت راجل".
مني التي خط الشيب رأسها وأصبحت جدة، لا تكل من عملها وتستمر في العطاء يوميًا بوقوفها الدائم في المحل في انتظار زوجها، وبمجرد رجوعه من المجزر تهم من مقعدها لتحمل على أكتافها رؤوس الجمال وأرجلها وغيرها من اللحوم، وتبدأ بعدها مهمة أخرى في تقطيعها وتشفيتها، وتظل خلالها واقفة طيلة فترة العمل وحتي تنتهي من مهة البيع للزبائن.. وبين الحين والآخر تسترق قسطًا من الراحة بالجلوس على الكرسي والاستمتاع برائحة البخور التي غمرت المكان بواسطة، أحد الباعة، مقابل بضع جنيهات.
تقى: إيه المانع إني أكون جزارة وباتكلم إنجليزي
البخور هو كلمة السر في مواجهة رائحة "الزفر" على حد وصفهن، وهو ما تعتمد عليه تقى الحلواني، في أوائل الأربعينات من عمرها، وصاحبة اللقب الشهير بين زملائها "الجزارة المثقفة"، في تجنب الروائح الكريهة.
في مكانها الذي تقف فيه منذ سنوات طويلة أمام حطام محل قديم ورثته عن أبيها، تنصب فرشتها بمنضدة خشبية وميزان وجرادل بلاستيكية كبيرة تضم بداخلها عددًا لا بأس به من أحشاء الذبائح وأرجلها، وغيرها من طلبات الزبائن التي تأتي إليها خصيصًا من الأماكن القريبة لمذبح إمبابة القديم.. تعرفها النساء والرجال بالاسم، فهي صاحبة لسان فصيح، وأسلوب جاذب يدفع بالعشرات للوقوف أمامها والتحدث معها والشراء من بضاعتها، تترك المهنة أثرها على يديها ببعض الندبات نتيجة لـ"لطشات" مختلفة من السكين.
تعود يوميًا من عملها إلى بيتها بمنطقة البراجيل، وبلمسات بسيطة تغير كثيرًا من ملامحها المعتادة بالمذبح، هنا تجلس بملابس مطرزة، وتضع قليلًا من أدوات الزينة المعروفة للنساء، ثم تبدأ في متابعة أطفالها وتقوم بمذاكرة مادة اللغة الإنجليزية لإحدي بناتها، تقول: "أنا خدت كورس انجليزي في المجلس الثقافي البريطاني، وبذاكر لأولادي لأني فاهمة كل المناهج بتاعتهم والحمد لله مستواهم كويس جدا".. وتتابع:"أنا ساهمت في تغيير نظرة الناس للجزارة.. إيه المانع إنها تبقي جزّارة ومثقفة في نفس الوقت".
المهنة جعلتها تتقن دورين في آن واحد، في بيتها هي الأم والزوجة والحبيبة، وفي عملها مثلها مثل الرجال، تقول: "قبل ما بخرج من باب الشقة بسيب الأنثي هنا، محدش بيتجاوز معايا، أهم حاجة في مهنتنا إن الست ماتبقاش مطمع، ولازم شخصيتها تبقي قوية ومحدش يستضعفها".