ضرورة التواصل مع تركيا الأخرى

قبل عدة سنوات أجريت حواراً مع كمال كيليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهورى وزعيم المعارضة التركية.. فى طريق عودتى من أنقرة إلى القاهرة كنت أتساءل: لماذا نترك أمثال هذا الرجل -وهم كثيرون- دون أن نفتح معهم قنوات تواصل وحوار؟!.. لم أتوقع يومها أن أسمع منه تقديراً كبيراً لمصر ودورها، ورغبة حقيقية فى عودة العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها، بل لم أنتظر أن يُوجه انتقادات حادة إلى رجب طيب أردوغان -رئيس الحكومة آنذاك- ويحمّله مسئولية تدهور تلك العلاقات!.. مرت السنوات وتوالت الأحداث ومعها زاد تمسك أردوغان بسياسته العدائية تجاه مصر، لا سيما مع احتضانه لقادة جماعة الإخوان، وتمويله العديد من المنابر الإعلامية التى تحرض ضد الدولة المصرية منذ عام 2013 وحتى اليوم على مدار الساعة!

فى المقابل لم يتزحزح كيليتشدار أوغلو عن مواقفه الداعية إلى مصالحة تركية - مصرية.. أتابع تصريحاته بشأن تلك القضية، فيترسخ الانطباعُ -الذى تركه لدىَّ - بأنه رجلُ دولةٍ، يعمل لمصلحة بلدهِ وحسب.

تذكرتُ كلَّ ذلك أثناء متابعتى لجلسة البرلمان التركى التى صوّتَ خلالها لصالح قرار إرسال قواتٍ إلى ليبيا، شهدتْ الجلسة سجالاً حاداً أظهرت فيه المعارضة موقفاً قوياً، وإن كان عددُ نوابها لم يسعفها لعرقلة تمرير هذا القرار. تبارى المعارضون من حزب الشعب الجمهورى وبدعم من أحزاب أخرى فى تفنيد الأسباب التى ساقتها حكومة أردوغان، وأهمها وجود «مخطط إقليمى لطرد تركيا من الخطط المستقبلية لشرق المتوسط والاستفادة من ثرواته».. أكد كيلتشدار أوغلو أن سياسة حكومة «العدالة والتنمية» الداعمة لتنظيم الإخوان المسلمين هى السبب فى ما تعانيه أنقرة من عزلة فى محيطها، وأن قطع العلاقات مع مصر وسوريا لم يجلب سوى أزمات يدفع الأتراك فواتيرها، بل إن حزب الوطن غير الممثل فى البرلمان والحليف للرئيس أردوغان أعلن أنه لن يدعم إرسال قوات إلى ليبيا إلا إذا صاحب هذه الخطوة مصالحة مع مصر!

لم يعُد خافياً أن غالبية الأحزاب التركية المعارضة تطالب بتصحيح العلاقات مع مصر، توطئةً لعودة تركيا لاعباً فاعلاً بشكل إيجابى فى المنطقة ولكسر عزلتها التى دخلت عقدها الثانى.. كما أن عدداً كبيراً من الكتاب والإعلاميين والمحللين السياسيين الأتراك يدعمون ذلك بقوة، فيما تتصاعد موجة غضب شعبى ضد علاقة أردوغان مع تنظيم الإخوان وقطر بشكل عام، وضد قرار إرسال جنود أتراك إلى ليبيا على وجه الخصوص.. يحدث ذلك رغم الهيمنة الإعلامية القطرية والإخوانية على وسائل الإعلام الموالية لأردوغان وحكومته، والتى تشن -باستمرار- هجمات تحريضية ضد مصر والسعودية والإمارات من خلال ترجمة أخبار مفبركة يزودها بها تنظيم الإخوان والإعلام القطرى.

من هنا نتساءل: أليس من المفيد التواصل مع أحزاب المعارضة التركية والتحدث إلى وسائل إعلامها حول الدور القطرى والإخوانى فى المنطقة؟

إن زعيم حزب الوطن «ضوغو بيرنجيك»، المعروف بكونه ممثلاً للدولة العميقة، والمتحالف مع أردوغان يزور دمشق ويلتقى مع الرئيس بشار الأسد ويطالب دائماً بالمصالحة معه، ويوظف صحيفة الحزب لإجراء لقاءات مع مسئولين سوريين، فهل يمكن دعوته ودعوة زعيم المعارضة وأعضاء من حزب الشعب الجمهورى إلى القاهرة لعقد لقاءات مع برلمانيين مصريين؟ ظنى أن الوقت مناسب تماماً لبناء جسور مع هؤلاء، سواء عن طريق مجلس النواب، أو من خلال مراكز أبحاث

تتبنى الأمر فى صورة ندوات يشارك فيها سياسيون وكتاب وصحفيون وفنانون أتراك معارضون لحكم أردوغان، كى لا نترك المجتمع التركى أمام الصورة المغلوطة التى يروجها الإعلام الحكومى لما يجرى فى مصر، على أن تكون البداية من ندوة يحتضنها مركز بحثى فى القاهرة تناقش القواسم والتحديات المشتركة مثل تحقيق الاستقرار ومحاربة الفكر التطرف والتصدى للجماعات الإرهابية ودعم التنمية الاقتصاية وهذا كله -بالنسبة للغالبية العظمى من الشعب التركى- أهم وأقوى من مصالح أردوغان مع قطر وتنظيم الإخوان.

لقد أثبتت تجارب عديدة بأن الحوار وتفعيل القوة الناعمة يمكن أن يكون مؤثراً وفاعلاً بنفس القدر الذى تؤثر به الدبلوماسية وغيرها من أدوات سياسية.

ثمة تركيا أخرى -غير تلك التى يتصدرها أردوغان- علينا التواصل معها اليوم قبل الغد.