«الوطن» تقضى ليلة من «المعاناة والفوضى» في استقبال مستشفى بولاق الدكرور
![«الوطن» تقضى ليلة من «المعاناة والفوضى» في استقبال مستشفى بولاق الدكرور](https://watanimg.elwatannews.com/old_news_images/large/27841_660_1045122_opt.jpg)
مبنى لا يعرف للنوم طعما، يجاور مركز شرطة بولاق الدكرور، يجلس على الرصيف المواجه لبوابته الحديدية الأهالى ينتظرون فى ترقب وخوف ما تسفر عنه الساعات المقبلة، ويقف خلف بوابته الحديدية التى لا تصمد كثيرا أمام التدافع الشديد شاب ضخم الجسم يمنع أقارب المرضى من الدخول، سألنى: «إلى أين أنت ذاهب؟ وماذا تريد؟»، وبعد تعريفه بنفسى سمح لى بالدخول إلى أحد أهم أقسام الاستقبال فى مصر وأكثرها سخونة فى الشهور الماضية، إنه استقبال وطوارئ مستشفى «بولاق العام» الذى أغلق أبوابه 18 يوما متتالية أمام الجمهور.[Quote_1]
فور دخولنا إلى القسم وجدنا اثنين من الموظفين يجلسان على مكتب ومعهما تذاكر دخول زيارة مرضى، ثمن التذكرة جنيهان، ثم اتجهنا إلى باب آخر، تتفرع منه طرقتان، فى الجانب الأيمن، يوجد مكتب للشرطة العسكرية به 3 مجندين، طرقات قسم الاستقبال متعددة والأبواب بها كثيرة، وكما قيل لى فقد جرى استبدال الأبواب الخشبية بأخرى حديدية مؤخرا؛ لأن الخشبية تحطمت، ومدخل الاستقبال مزدحم دائما بالمرضى وذويهم.
بعد نصف ساعة من دخولنا، دخلت دفعة كبيرة من الأهالى وبصحبتهم رجل فى العقد الرابع من العمر، غارق فى دمائه لا يحرك ساكنا، مصاب بإصابات بالغة بالأسلحة البيضاء، وقف أقاربه يطلبون من الأطباء سرعة التدخل لإنقاذه، جاء طبيب شاب اسمه محمود عبدالفتاح محمد، أخصائى الجراحة العامة، وبعد دقائق قليلة قال لأهله: «البقاء لله». صرخوا فى وجهه: «ازاى؟ انت كشفت عليه؟ الراجل ما ماتش»، وحدثت مشادات كلامية بين الطبيب والعاملين بالمستشفى وبين أقارب المتوفى وارتفع الصوت عاليا، هذه المشادات كانت على بعد أمتار قليلة من مكتب نقطة الشرطة العسكرية، الذين لم يتدخلوا لحل المشكلة التى انتهت بإيداع المتوفى ثلاجة المستشفى، العاملون بالمستشفى تعودوا على هذه الدماء وعلى مثل هذه المشادات وأصبحت بالنسبة لهم شيئا عاديا.
سألت أخصائى الجراحة عن عدد الحالات التى تدخل المستشفى نتيجة الخناقات والبلطجة، قال: «لا تمر 5 دقائق دون دخول الحالات المصابة إلى الاستقبال، وأحيانا يدخل 15 مصابا دفعة واحدة، ما بنقدرش نلاحق عليهم، وممكن جدا نشتغل الحالات دى على الأرض».[Quote_2]
وأضاف: ليست المشكلة فى عدد المصابين والمرضى، لكن المشكلة فى أقاربهم وأصدقائهم، كل حالة يكون معها على الأقل 5 أفراد، وكل شخص منهم يريدنى أن أترك ما فى يدى وأرى حالته، وفى يوم من الأيام كان زميلنا يخيط رأس حالة مصابة فى خناقة كبيرة، حين جاء أحد أقارب حالة أخرى، وضربه بـ«الشلوت» من الخلف.. ويتذكر منذ 3 أسابيع، قبل إغلاق قسم الاستقبال، جاء مريض بصق على الأطباء، ووجه سيلا من الشتائم والسباب لهم فى حضور رئيس مباحث بولاق الدكرور، ولم يعترضه أو حتى يقول له «عيب».
بعد دقائق قليلة، سمعنا صراخ سيدة أمام بوابة غرفة العمليات، كانت تريد الدخول إلى جناح العمليات، لإدخال بعض الأشياء إلى أخت لها تنتظر الولادة، وحدثت مشادة كلامية كبيرة بين رجل الأمن والسيدة، وقالت: «لازم نعمل ثورة تانى من جديد عشان تنظبطوا، دى مستشفى بنت (...)»، وخرجت السيدة من الاستقبال.. بعدها بنصف ساعة حضر أخو تلك السيدة وحاول الدخول بالقوة برفقة صديقه، واشتبكا مع فرد الأمن الذى حاول منعهم وفض تجمع بعض الأهالى الموجودين فى قسم الاستقبال، وهم كثيرون، وقال أخو الحالة: «مش عارفين تولدوها من الساعة 8 الصبح يا ولاد الـ(...)، مستشفى بولاق دى بنت (...)»، ثم خرج من الاستقبال أمام توسلات الناس الموجودة، ولم تحرك الشرطة العسكرية ساكنا على الرغم من وقوع المشكلة أمام مكتبها.[Image_2]
بعد انتهاء المشكلة توجهنا إلى فرد الأمن، الذى قال: «بشتغل 8 ساعات يوميا، وزى ما حضرتك شايف، طول النهار شتيمة وبهدلة، وبعد 6 سنين فى المستشفى باخد 260 جنيه، دا كله على أمل إن الواحد يتثبت فى الشغل، والواحد زهق بصراحة ومش عارف يعمل إيه»، وأشار إلى أن موظفا، زميلهم، تعرض لضربة سكين فى مشادة مثل التى حدثت.
قسم الاستقبال به 5 أقسام: جراحة ونساء وتوليد وأطفال وباطنة وعظام، مفتوحة لمدة 24 ساعة، ويقدم الخدمة مجانا، مما يدفع عددا كبيرا من المرضى للجوء إليه بدلا من العيادات، وحتى الساعة 11 مساءً لم يقل عدد المترددين على القسم، بل يزيدون.
على بعد خطوات قليلة من غرفة الجراحة توجد غرفة الباطنة، وقفت فيها الطبيبة أميرة مصطفى شلبى، التى كانت تكشف على فتاة تشتكى من ألم بالبطن، وفجأة حضر شاب فى منتصف العشرينات، ويمسك بطنه ويقول لأمه وإخوته وهو يسند عليهم: «أنا خلاص مش قادر»، واقتحموا غرفة الكشف، وعندما حاولت إحدى العاملات بالمستشفى منعهم من الدخول، رد عليها المريض: «والله لو ما سكتّيش هخلص عليكى»، وبعد الكشف تبين أنه تناول كميات كبيرة من مخدر «الترامادول»، وبعد أن غادر المستشفى، قالت لنا الطبيبة: «الشتيمة والخناقات أصبحت من سمات المستشفى، واللى أمه داعية عليه من الدكاترة ييجى يشتغل هنا».
وأضافت: «منذ شهر تقريبا كنت أكشف على مريض، وفجأة جاء إلىّ أحد أقارب حالة أخرى، وطلبوا منى أن أترك الحالة التى أكشف عليها وأتوجه إلى حالتهم، وعندما قلت لهم إنه يجب أن أنهى ما فى يدى أولا، سبنى بأقبح الشتائم وصلت إلى الأب والأم، ومكثت 4 أيام لا أكلم أحدا، وذهبت إلى مديرية الصحة بالجيزة أطلب الحصول على إجازة، خصوصا لأن فرصة تحضير الماجستير كادت تضيع بسبب الحالة النفسية السيئة التى وصلت إليها، ولن أنسى أبدا ما شاهدته بعينى عندما اقتحم البلطجية المستشفى، وضربوا مصابا بقسم الجراحة على مرأى ومسمع من رئيس المباحث، الذى قال: هنعمل لهم إيه؟».
بعد منتصف الليل، جاءت طبيبة، يبدو أنها رئيسة قسم الاستقبال؛ لأنها كانت تتحدث مع الأطباء بشدة وتحتد عليهم أحيانا، فضلا عن أنها كانت تصرخ فى أفراد الأمن والموظفين لوجود أشخاص كثيرين داخل قسم الاستقبال، وقفت الطبيبة برهة من الوقت فى طرقة الاستقبال، وأتى إليها مرضى كثيرون، يسألونها: «فين بتاع الأشعة؟ إحنا بقالنا ساعة مستنيين»، تنظر إلى موعد الدخول ثم تقول بصوت مرتفع: «حرام عليكم، المعاد على التذكرة لسه معداش عليه 5 دقايق، بتاع الأشعة معاه حالة فوق ونازل دلوقتى استنوا شوية».[Quote_3]
بعد فترة قصيرة، عرفنا أن هذه الطبيبة اسمها رمزية رجب إسماعيل، نائب مدير المستشفى، ومدير مناوب الفترة المسائية، وتقضى معظم وقتها فى المستشفى، ويستمر عملها من 8 صباحا فى العيادات حتى 3 ظهرا، ثم تستريح لمدة ساعات لتتولى إدارة المستشفى الفترة المسائية حتى الصباح، قالت لنا: «مرت علىّ أيام لا أذهب للبيت إلا يوما واحدا وكنت أقضى الأسبوع كله هنا، إلا أن ظروف مرض زوجى اضطرتنى أن أذهب للبيت يوميا لمدة ساعات، توليت هذه المهمة منذ أكثر من 4 سنوات؛ لأن إدارة المستشفى قالت لى: أحسن حد يتولى مسئولية المستشفى بالليل انتى لأنك واحدة ست وما حدش هيقربلك، وهو ما لم يتحقق؛ لأن فيه ستات لسانها طويل وما بيهمهاش»، وأشارت إلى أنه فى الفترة المسائية نستقبل كثيرا من المشكلات؛ فأول سؤال يأتى على بال أى مريض أو أحد مرافقيه: «فين مدير المخروبة دى؟».
وأضافت الطبيبة رمزية: «أغلقنا قسم الاستقبال بعد الاعتداء على زملائنا من الأطباء أكثر من مرة وتكسير غرفة عمليات الحالات الحرجة، ووعدَنا المحافظ بأنه سيوفر أفراد الشرطة العسكرية للحماية، وحضرت بالفعل، لكنها لم تمنع شيئا، وقالوا لنا: ما عندناش تعليمات بالتدخل، إحنا بنحمى المنشأة مش الدكاترة».
وقالت الطبيبة فى حدة: وزارة الصحة الوزارة الوحيدة اللى تعبت من وقت الثورة، لأن الخناقات بالأسلحة أصبحت كثيرة جدا، ولا يمر يوم دون دخول حالات مصابة فى خناقات ولن أبالغ إن قلت مقتولة، المشكلة تكمن فى وقوع المستشفى فى منطقة شعبية لم تعد تسيطر عليها الشرطة وتحدث فيها معارك كبيرة، وفى إحدى الليالى استقبل المستشفى 3 خناقات نتج عنها مقتل شخص وإصابة اثنين بطلقات نارية وآخر بطنه مفتوح خرجت منه أعضاؤه، وبما أننا شعب مجامل يحضر مع المصاب الواحد نحو 10 أفراد، مما يتسبب فى وقوع مشاكل، ومنذ يومين حضر شخص مصاب فى إحدى هذه المعارك وكان ظهره مرشوشا بالخرطوش وكان لا بد أن نعلق أنبوبة صدرية لحماية رئته، إلا أنه قال لنا: انتوا هتعملوا فىّ إيه يا ولاد الـ(...)؟»، ورفض إكمال العلاج وأصر على الخروج، ومضى على تعهد خروج، وحين قابله أهله خارج باب المستشفى ظنوا أننا رفضنا علاجه واقتحموا المستشفى؛ لأن عدد أفراد الأمن التابعين للمستشفى قليل جدا ومرتباتهم قليلة وغير معينين.
تضيف الطبيبة أن قسم الاستقبال يستقبل نحو 1200 مريض على مدار اليوم إلى جانب 1500 آخرين فى العيادات، وعلى الرغم من أن علاج المرضى فى القسم مجانا، فإنى فوجئت بسيدة تقول لى: «خللى بالك إحنا اللى بندفع لكم مرتباتكم»، ويطلبون منا أن نصرف علاجا دون كشف ويقول بعضهم: «دا بيريحنى وأحيانا يكون هذا الدواء به نسبة مخدر كبيرة»، وإذا لم نوافق على طلباتهم نتلقى السباب والشتائم.
ينتهى كلام نائب مدير المستشفى، لكن إقبال المواطنين على المستشفى لم ينته، ووقوع المشادات الكلامية والاشتباكات بالأيدى لم ينته أيضا، أثناء فترة زيارتنا لقسم الاستقبال فى مستشفى «بولاق الدكرور العام».