العراق فى نفق بلا ضوء

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

فى العقود الأربعة الماضية مرّ العراق بأوقات عصيبة، استطاع أن يتجاوزها بقدر معقول من الخسائر رغم فداحتها، حاول بعدها، لا سيما بعد الاحتلال الأمريكى البريطانى 2003، أن ينهض مرة أخرى من عثراته، وبدا لوهلة أنه فى ظل الوجود العسكرى الأمريكى المقنن منذ نهاية 2011، فى صورة مدربين واستشاريين، والمصاحب له نفوذ إيرانى متغلغل فى مفاصل الدولة العراقية ونخبها الحاكمة، وكلاهما متصادمان، بدا قادراً على إجراء توازن دقيق بينهما، وخلق نموذج تعايش بين الأضداد على نحو فريد. الأمر لم يكن يسيراً، وما زال، خاصة فى ضوء الصراع الكبير بين واشنطن، برئاسة ترامب، وطهران التى تعتبر نفسها وصية على دول مجاورة لها.

والواقع أن المحاولات التى قادتها النخبة العراقية فى ظل دستور يبدو ديمقراطياً وتوافقياً، وفى جوهره طائفياً وتقسيمياً، لم تفلح سوى فى إدارة الأزمة بين وجودين متصارعين، ولم تطرح حلولاً جذرية لها، من خلال استعادة العافية الوطنية لكل المؤسسات، بل زادتها سوءاً، خاصة مع اتساع مستويات الفساد وتغلغله فى مفاصل الدولة، وعدم قدرة المؤسسات التى أُنشئت من أجل مناهضته على القيام بما يجب أن تقوم به من محاسبة الفاسدين وردع مَن تسوِّل له نفسه أن يدخل تلك الدائرة الجهنمية. وهكذا اندمج الفساد مع النفوذ الإيرانى والوجود الأمريكى والفقر الشعبى، وتراجع هيبة المؤسسات وانعدام التنمية لتشكل أزمة مركبة، يزيد منها الاستياء الشعبى والوعى الرافض لمحاولات الخداع والحلول الجزئية والوهمية.

ومنذ الاحتجاجات الشعبية فى نهاية أكتوبر الماضى التى نادت بمحاسبة الفاسدين وتغيير النخبة وإصلاح الأوضاع وحكومة جديدة تعمل لصالح الشعب وليس لاستنزافه، ومواجهة النفوذ الإيرانى والتخلص من أعبائه، واستعادة البلاد لروحها العروبية والقومية، أصبح العراق ساحة للاختبارات والصراعات المكشوفة بين تابعى النفوذ الإيرانى وبين المكافحين من أجل عراق حر وسيد على نفسه.

الأوقات العصيبة الماضية تعد مقارنة بما هو حادث الآن وتحديداً من نهاية أكتوبر الماضى فى مدن العراق وقراها ودوائرها الحكومية نوعاً من الترف. والمؤكد أن تراكم الفساد وانخراط النخبة فى حصد المكاسب على حساب الشعب العراقى، والتورط أكثر وأكثر فى النفوذ الإيرانى الخفى والمعلن على السواء، وغياب رؤية جامعة بين القوى السياسية لإصلاح الأوضاع العراقية والسعى نحو تأكيد سيادة الشعب وانتفاعه بموارده، والعمل على إحياء الدور الإقليمى للعراق المستقل ذى السيادة الناصعة وليست المخدوشة، تمثل كلها جذور الأزمة العراقية الراهنة، التى تأخذ منحى تصاعدياً قد يذهب بالحد الأدنى من الاستقرار المشوّش إلى نفق عميق لا ضوء فيه، ويزداد الوضع صعوبة إذ ما قرر بعض زعماء الحشد الشعبى توسيع المواجهة مع الوجود الأمريكى دون حساب للمصلحة العراقية.

حين يتأمل المرء عناصر الأزمة المركبة العاصفة بالعراق الآن، يجد أنها تدفع إلى الانفجار وليس الاحتواء، وهى قبل كل شىء نتيجة منطقية لمحاولة المزج بين الأضداد، كقرار الحكومة العراقية فى عهد رئيس الوزراء السابق حيدر العبادى نتيجة للضغوط الأمريكية دمج مجموعات الحشد الشعبى وهى فى الأساس مجموعات تتبع قادة ذوى نفوذ وتسليح وتدريب إيرانى وولاء أبعد من حدود الدولة العراقية، وإلحاقها بالجيش الوطنى العراقى كمجموعات مستقلة وليس كأفراد يتم توزيعهم على قطاعات وأسلحة الجيش الوطنى المختلفة، الذى يفترض أن عقيدته العسكرية وتنشئة أبنائه من الجنود والضباط تقوم على أسس المواطنة والدفاع عن الوطن وتجاوز المناطقية والولاءات الشخصية والدينية، وهى عقيدة تتناقض تماماً مع ولاءات الحشد الشعبى. وبالقطع فالنتيجة المنطقية أن تختلط الأمور ويصبح اللامشروع مشروعاً، ولكنه خطير كالفيروس الصامت يفت فى عضد الخلايا ويشتت قدراتها، وتصعب محاسبتها، بل زاد الأمر سوءاً بأن يسمح لقادة هذه المجموعات المسلحة وأعضائها النافذين بأن يشاركوا فى الانتخابات النيابية باعتبارهم يمثلون مجموعات سياسية أو كتلاً حزبية، ومن ثم فاز 47 نائباً يمثلون رقماً صعباً فى الأداء البرلمانى وفى الحياة السياسية ككل. والمؤكد أنه لولا نفوذهم العسكرى والدعم الإيرانى لما فاز غالبيتهم.

الجمع بين الأضداد يتمثل أيضاً فى وجود عسكرى أمريكى ونفوذ إيرانى واسع المدى، والحديث عن الصراع القائم بينهما فى الفضاء الإقليمى ومن ضمنه العراقى معروف للجميع، وهو الآن ينذر بتطورات خطيرة بكل المقاييس بعد قصف معسكر عراقى تواجد فيه عسكريون أمريكيون، قُتل أحدهم وأصيب آخرون، وهو القصف الذى يحمل الرقم الحادى عشر منذ أكتوبر الماضى، ولكنه الأول الذى أدى إلى سقوط ضحايا أمريكيين، ما اعتبر إهانة كبرى تستحق الرد والانتقام. وبعدها قامت الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية وصفت بأنها دفاعية لمواقع ومخازن أسلحة تتبع مجموعتى «عصائب الحق» و«حزب الله» العراقى على الحدود العراقية - السورية، ما أسفر عن مقتل 15 مسلحاً، منهم قائد بارز، الأمر الذى يمثل انعطافة كبرى فى السلوك الأمريكى الذى لم يرد من قبل على الهجمات السابقة، واعتبره الرئيس العراقى انتهاكاً للاتفاقيات التى تحدد طبيعة عمل العسكريين الأمريكيين على الأرض العراقية.

وفى المقابل، علت أصوات قيادات الحشد الشعبى بضرورة الانتقام والرد على الوجود العسكرى الأمريكى وإخراجه شر طردة بالقوة، ما ينذر بمواجهات ومحاولات أخرى للحشد الشعبى لقصف المعسكرات العراقية التى يتواجد فيها عناصر أمريكية عسكرية أو مدنية، وربما توجيه ضربات للدوريات الأمريكية، ومن ثم يتصاعد الموقف، ويحدث ما يحذر منه قادة عراقيون ذوو حس وطنى من أن يتحول العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات الإيرانية - الأمريكية، ويدفع ثمنها العراقيون ووطنهم الغالى. والواضح أن الساعين إلى إشعال الموقف يهدفون أساساً إلى محاصرة الانتفاضة الشعبية من خلال دفع الوطن ككل إلى مواجهة عسكرية تتوارى معها أية مطالبات بالإصلاح أو مواجهة الفساد الشائع فى البلاد.

وتدل تطورات المواجهة بين المتظاهرين وعناصر مجهولة، يشاع أنها قريبة أو من الحشد الشعبى، تقتل المتظاهرين والناشطين أمام بيوتهم كما تظهرها بوضوح مقاطع فيديو متداولة، على أنها مرشحة لمزيد من الاحتقان والتوتر، لا سيما فى ظل فشل النخبة العراقية على إدراك أن فرض مرشح لرئاسة الوزراء يكون تعبيراً عن نفوذ إيران الواسع هو بمثابة إلقاء الزيت على النار لتزداد اشتعالاً، بل يتجه هؤلاء إلى الإضرار المتعمد بمنصب رئيس البلاد الذى يحاول أن يضع الأمور فى نصابها الصحيح عبر التغاضى عن المرشحين الذين يمثلون استفزازاً للعراقيين، والنصح بأن يكون المرشح لرئاسة الحكومة الانتقالية شخصية مقبولة تؤدى الهدف من ترشيحها فى احتواء احتياجات العراقيين لوجوه جديدة مكروهة وغير ملوثة بالفساد.