نحو مجتمع أقل دعشنة
ماذا أتمنى فى العام الجديد؟ للمرة الثامنة على التوالى تتركز أمنياتى فى تقليل نسبة دعشنة المجتمع، وزيادة جرعة التنوير، مع ضخ قدر أكبر من الشجاعة والإقدام فى مواجهة ما نتعرض له من مزيد من تجهيل وتغييب ودفن الرؤوس فى الرمال والضحك على الذقون بالذقون.
ذقوننا المضحوك عليها منذ نحو نصف قرن لم تعد تتحمل المزيد من العك والخلط بين الدين (وهو ليس من الدين فى شىء) من جهة، والمجتمع والثقافة والتعليم وتفاصيل الحياة اليومية. للمرة الثامنة لا تخرج أمنياتى عن محور دعشنة المجتمع الذى بات متدعشناً بالفطرة، حيث عنف التفكير تحت شعار التدين، وعنف التصرف من خلف واجهة حماية الدين، وإشاعة الفوضى والهمجية بديلاً عن النظام والقانون من منطلق أن هذا ليس حراماً وأن الشرع لم يتطرق له.
خذ عندك مثلاً عزيزى القارئ ما أفتى به «شيخ» (كما لقبه ركاب الميكروباص) نظراً لذقنه الطويل المخضب بالحناء وجلبابه القصير ودشداشته المنسدلة على كتفيه، إذ «أفتى» بأن السرعة على الطريق لا علاقة لها بالحلال والحرام طالما السائق متمكناً، وحيث إن الطريق «بسم الله ما شاء الله فاضى»! اللوحات المحددة للسرعات، والسائق «المبرشم» على ما يبدو، والركاب الذين لم ينشأوا على قواعد اسمها السلامة المرورية، وأمين الشرطة الجالس على جانب الطريق غارقاً فى مكالمة تليفونية، لم ترد فى الشرع من قريب أو بعيد، هكذا قال. وحكاية قوانين المرور (الميتة إكلينيكياً) والمحددة للسرعات للتقليل من حجم الحوادث السافكة للدماء كلها مسائل سنها البشر، ومن ثم رجاء عدم إقحامها فى كلام الله.
كلام الله الذى يفتك به البعض، ويتلاعب به البعض الآخر، ويحتكره فريق ثالث فى مصر على مدار سنوات لم ينص على ما آل إليه مجتمعنا، ولذلك أتمنى من كل قلبى أن يسفر العام الجديد عن معجزة ما تنفض عنا أتربة العقود الخمسة الماضية، وبعد نفض الغبار، نخضع لعملية صنفرة عاتية للتخلص الأبدى من طبقات الصدأ والجلخ التى لحقت بأدمغتنا، فبين خرافات حولت حياتنا إلى مسخ آدمى، وتصنيفات للبشر بحسب ما يرتديه هذا وما يبدو على ذاك من أمارات تدين، وليس كيف يتصرف هذا وما يأتى به من أعمال تفيد البشرية وتعكس إنسانية، ودوامات مستمرة فى جذبنا نحو القاع الممتلئ بمجتمعات سبقتنا إلى تغليب الخرافة والتسليم بوجود كهنة الوساطة بينهم وبين الله نحتاج حتماً إما إلى عمل دؤوب وإقدام معتبر أو إلى معجزة من السماء لتخليصنا مما نحن فيه.
وما نحن فيه سينتقل حتماً معنا إلى العام الجديد، حيث إن مسألة التجديد وملف التنقيح والتطهير «معصلج» إلى حد كبير، والحقيقة أن «العصلجة» ليست ناجمة فقط عن مقاومة داخلية عتيدة من قبل من كنا نظن أنهم القائمون على أمر الإصلاح، ولكنها أيضاً مستفحلة لأن المجتمع نفسه متدعشن إلى حد كبير.
وأتمنى فى العام الجديد أن نكاشف أنفسنا وننظر حولنا ونقيم أعمالنا وأداءنا. ها هى السعودية تنهض بقوة وبسرعة بعد عقود من الانغلاق والتطرف العابرين للحدود، وها هم من رفعوا رايات تحرير القدس وتطبيق شرع الله والإسلام هو الحل و«عايز أختى كاميليا» حين تتاح لهم فرصة الهروب يهربون إلى بلاد ينعتونها لنا بـ«بلاد الكفر والفسق والعلمانية المقيتة».
وأتمنى فى العام الجديد أن تكون إحدى نقاط البداية الحقيقية للتطهير هى الكوادر البشرية فى المدارس. فقد ثبت بالحجة والبرهان أن محتوى المناهج وشكل المبانى وطريقة الامتحان وحدها لا تكفى لبناء الأجيال، فماذا يفعل كل ما سبق إذا كان المعلم غارقاً فى فكره الداعشى، مؤمناً بحتمية إقصاء الآخر وإن أمكن قطع رقبته، باثاً فى الصغار رفض الاختلاف بناء على فوقية متخيلة؟
وأتمنى فى العام الجديد أن تكون الشوارع والميادين إحدى نقاط البداية الحقيقية لتطهير السلوكيات البشرية التى فضحتنا ووصمتنا ونحن عنها غافلون، إهانة النساء بالنظر والتعليق ورفض التعامل معهن باعتبارهن كائناً بشرياً وليس أدوات جنسية قابلة للإصلاح المؤقت بالقوانين لحين إصلاح التربية وتقويم التعليم، واعتبار المركبات وقيادتها وتحويلها إلى جدران للتعبير عن الميول الدينية أو الاختيارات الاجتماعية حرية شخصية خاضعة للإصلاح أيضاً عبر تطبيق قوانين المرور التى خرجت ولم تعد، واحتلال الأرصفة على أيدى أصحاب المقاهى وبناة الأكشاك، والسيطرة على الشوارع من قبل «السياس» تحت مسمى «أكل العيش» و«خلى الغلابة تعيش» إلى آخر القائمة المعروفة أمور أيضاً قابلة للإصلاح عبر الضبط والربط دون «إكرامية» أو «إتاوة» أو رشوة أو ما شابه.
هذه أمنياتى. وهى أقرب ما تكون إلى الأحلام، وأنا أحلم بمجتمع أقل دعشنة، لكن من قال إن الأحلام لا تتحقق؟! الله كريم وكل عام وأنتم أيضاً كرماء.