دبى.. و«عصابات الخمسين سنتاً»

فى الأسبوع الماضى، ظهر تطبيق عملى لما يمكن أن تفعله «عصابات الخمسين سنتاً»، أو «الميليشيات الإلكترونية»، التابعة لقطر ولتنظيم «الإخوان»، والتى سعت، عبر جهود مزجت بين أساليب التضليل التقليدية وتقنيات الاتصال المتقدمة عبر «الإنترنت»، إلى إحداث وقيعة بين أبوظبى والرياض من جانب، والإضرار بالموقف الاقتصادى لدبى من جانب آخر.

لقد منحتنا وسائل التواصل الاجتماعى فرصاً عديدة حين قصرت المسافات، وسهلت الاتصالات، ونقلت الأفكار والصور، وعززت مفاهيم الحداثة، لكن فى مقابل هذه الميزات والفرص الكبيرة ظهرت المخاطر الفادحة؛ ومنها خطر الخضوع لتأثير «الميليشيات الإلكترونية»، التى تستخدمها بعض الأطراف كأداة للتعبئة والحشد والاغتيال المعنوى وإشاعة الأكاذيب فى كثير من الأحيان.

لا يمكن فصل المحتوى الإخبارى المقدم عبر مواقع التواصل الاجتماعى عن المحتوى الدعائى بسهولة؛ إذ تنشط مجموعات، يسميها الصينيون «عصابات الخمسين سنتاً»، ونطلق عليها فى العالم العربى لقب «الميليشيات الإلكترونية»، فى عملية تسميم المحتوى الإخبارى على الشبكة.

تقوم تلك المجموعات بعمل «ميليشياوى» بامتياز، إذ تخضع لتخطيط مركزى، يستهدف إحداث أثر معين، لكنها تنشط بشكل غير متماثل، وتتخذ سواتر، وتطور حسابات بأسماء وهمية، وبالتالى فإنها تنجح فى إصابة أهدافها من دون كشف هوياتها فى كثير من الأحيان.

تقوم «عصابات الخمسين سنتاً» بشن حملات السب والقذف والكراهية على أطراف معينة، امتثالاً لأوامر أسيادها، كما تقوم أحياناً بحملات دعاية وترويج ومدح للحلفاء والأنصار.

ويمكن لتلك «الميليشيات» أيضاً أن تختلق أخباراً من العدم، وتذيعها على حساباتها باعتبارها حقائق، قبل أن تُجيّش فى اتجاه معين، استناداً إلى تلك الإفادات المصطنعة.

يقتطع أعضاء تلك «الميليشيات» صوراً وكلمات ولقطات «فيديو» من سياقها، ويتم وضعها تحت عناوين مضللة، وفى سياق عرض معين، لكى توقع بطرف، أو تدين طرفاً، أو تختلق فتنة بين أتباع دينين أو مذهبين، أو تمجد زعيماً، أو تحقر رئيساً. وللأسف الشديد فإن «عصابات الخمسين سنتاً»، أو «الميليشيات الإلكترونية»، أو «اللجان الإلكترونية»، لم تعد مسألة قاصرة على الحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية وقوى المعارضة، ولكن الحكومات أيضاً تستخدمها.

لقد تحول الفضاء الإلكترونى، خصوصاً فى صفحات «السوشيال ميديا»، إلى ميدان تضاغط وصراع، وهو ميدان لا تتورع عن النزال فيه حكومة أو معارضة، أو منظمة مدنية أو جماعة إرهابية، أو حتى رجال أعمال وأصحاب مصالح، وبسبب تفشى أثر تلك اللجان، فإن الدور الإخبارى لوسائل التواصل الاجتماعى يظل محل شكوك عميقة.

تمتلك قطر، وحلفاؤها فى تنظيم «الإخوان»، خبرات عميقة فى مجال تشغيل «عصابات الخمسين سنتاً»، وهى تحرز نجاحاً كبيراً أيضاً فى تضفير الدعاوى المضللة التى تطلقها تلك العصابات مع المحتوى الإعلامى الذى تنتجه منصاتها الإعلامية الرائجة، وعلى رأسها «شبكة الجزيرة» بطبيعة الحال.

وفى الأسبوع الماضى، كان لدينا بيان عملى على هذا العمل الإجرامى، حينما شنت «الميليشيات الإلكترونية» القطرية هجمة على الإمارات وحكومتها وصناعتها واقتصادها.

يستفز الازدهار الإماراتى الكثير من الفاعلين السياسيين فى المنطقة، وبسبب الموقف الصارم الذى وقفته حكومة أبوظبى فى وجه المد «الإخوانى» والتغلغل الإيرانى والتدخلات التركية، فإن قراراً اتُخذ بمعاقبة الإمارات.

وبموازاة هذا القرار الذى تم تفعيله عبر استخدام آليات التشويه والاغتيال المعنوى وإشاعة الأخبار المضللة والطعن فى المنجزات الإماراتية، كان هناك قرار آخر بدق إسفين بين أبوظبى والرياض.

تعول الدوحة كثيراً، ومن ورائها حلفاؤها الإقليميون، على تخريب العلاقات الإماراتية - السعودية، وفض الحلف الذى يجمع الدولتين، وهو أمر سيغير وجه السياسة فى الإقليم بكل تأكيد.

لذلك، فقد انصب جهد الدعاية السوداء التى استهدفت الإمارات وعلاقاتها بالسعودية على محاولة إشاعة أن الصناعات الإماراتية المصدرة، أو التى يعاد تصديرها عبر دبى، غير مطابقة للمواصفات، ومغشوشة، وغير صالحة للاستخدام، وأنها تختلف عن تلك التى تسمح الإمارات بتداولها فى أسواقها.

ومن جانب آخر، تم إطلاق وسم يحض على مقاطعة السلع الإماراتية، وإعطاء الانطباع بأن مطلقيه سعوديون، وهو أمر يمكن أن يسىء إلى العلاقات بين البلدين.

لقد فطنت السلطات الإماراتية لهذه المؤامرة، وأصدرت على الفور ما يفندها ويكشف زيفها، ومن ذلك التأكيد على تمتع السلع المعاد تصديرها عبر الدولة بكل معايير الجودة المعتمدة، فضلاً عن تمتع السلع المنتجة فى الإمارات بمعايير جودة عالمية.

ورصدت الجهات الإماراتية المعنية بمتابعة الحملة العدائية، أن 5% فقط من التغريدات المتضمنة بها قادمة من السعودية، بينما اتضح أن الـ95% التى تشكل معظم هذا الاستهداف مصدرها قطر، كما أفادت تلك الجهات.

لم تكن الإمارات لتحقق هذه المكانة الاقتصادية والسياسية فى فترة زمنية قصيرة إلا من خلال تمسكها بقواعد الحوكمة وآليات الإدارة الرشيدة؛ ومن ذلك التزامها بالمعايير الدولية المرعية فى سلوكها الصناعى والتجارى.

لا يجب أن يكون هذا البناء الاقتصادى الضخم الذى أنجزته دبى عرضة للتشكيك لمجرد أن قطر قررت أن تستخدم عصابات إلكترونية لإطلاق وسوم معادية، ولا يجب أن يتم السماح للدوحة بالنيل من العلاقات الإماراتية - السعودية التى تشكل ضمانة قوية لاستقرار السياسات فى المنطقة ومواجهة تدخلات القوى الإقليمية.

فى الشهر الماضى، أعلنت شركة «فيس بوك» أنها «حذفت 5.4 مليار حساب مزيف»، خلال العام الجارى 2019، وما يمكن أن نفهمه إزاء هذا الإعلان أن «فيس بوك»، الذى يمتلك قاعدة مستخدمين شهرية فى حدود 2.5 مليار مستخدم، كان يستضيف حسابين مضللين مقابل كل حساب محدد الهوية، ويتيح لهما بث الأكاذيب وتسميم الأجواء، قبل أن يتمكن من حذفهما.

وفى شهر يونيو المنصرم، نشر «مركز ابتكار الحوكمة الدولية» نتائج استطلاع دولى أجرته شركة «إبسوس»، على عينة من 25 ألف شخص فى 25 بلداً، وقد جاءت النتائج صادمة؛ إذ أفاد 86% من المبحوثين الذين يستخدمون «الإنترنت» بانتظام، أنهم وقعوا ضحية لأخبار مزيفة عبر وسائط التواصل الاجتماعى.

لا يجب التشكيك فى موقف الإمارات وصناعتها وتجارتها وعوامل ازدهارها لمجرد أن «ميليشيا إلكترونية» تابعة لقطر تلقت أمراً بإحداث هذه الجلبة، ولا يجب أن تتأثر العلاقات بين السعودية والإمارات بتلك الدعاوى المضللة. وبموازاة ذلك يجب أن يكون هناك حل لمشكلة «عصابات الخمسين سنتاً».