الطب النفسى.. أيقونة الإحياء (1-2)
تخرجت فى كلية الطب بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف، حسبت وقتها أننى تعلمت الطب، لكن بعد تجربتى مع أول مريض، أدركت أننى سأبدأ تعلم الطب من جديد، ففى أول يوم جلست فيه فى استقبال المستشفى الجامعى جاء عدة جنود، ومعهم جندى أمن مركزى فقد النطق تماماً، رغم شبابه وحيويته، وصحته الجيدة.
حيرتنا الحالة، ذهبت بها إلى صديق عمرى د. على عبدالعزيز، الذى كان وقتها مدرساً مساعداً للطب النفسى، نظر إليها سريعاً وقال: بسيطة جداً، هذا بُكم هستيرى، شرحه لى باختصار، وكانت هذه أول مرة أسمع عنه أو أرى حالة فيه، أعطى الجندى جلسة كهرباء فنطق سريعاً.
قلت له: لم ندرس هذا فى الكلية، فقد اهتموا بأمراض المخ والعصبية العضوية، ولم يدرسوا لنا النفسية مطلقاً.
قلت له: هذا عالم جديد لا نعرف عنه شيئاً، ولم نرَ له حالات، قال: بعدما تنتهى عيادتك سأشرح لك جزءاً من هذا العلم، واظبت على حضور العيادة معه.
علمت أن هذا الجندى ضربه الشاويش بالعصا على يديه وجسده مرات، أراد أن ينتقم من الشاويش، ولكنه خاف الإهانة أو السجن، أصابه البكم كأسهل حل ابتكره عقله الباطن للتهرب من المشكلة وتبعاتها.
كان هناك آلاف المعتقلين فى السجون فى أعوام من 1981 وحتى 1983، كانت أول حالة مستعصية أتصدى لعلاجها حالة الإعلامى الشهير الذى حكيت عنه فى المقال السابق، ذاعت شهرتى لدى مسئولى السجون فى هذا المضمار، كلما تعبت حالة أحضروها، عشقت الطب النفسى -رغم رفضى للتخصص فيه- لأننى أدركت خطورة أن يحال بين الإنسان وعقله، أو يفقد مناط التكليف الشرعى والقانونى، أو ينعزل بنفسه فى عالم آخر لا علاقة له بعالمنا.
من كثرة الحالات التى وجدت نفسى فى مواجهتها أدركت الفارق الضخم بين الإنسان فى حالة مرضه وعافيته، حينها فقط شعرت بمدى الإحسان الذى يقدمه الطبيب النفسى لمرضاه، إذ يعيد إليهم عقولهم وسكينتهم وطمأنينتهم ونومهم الهادئ وسلامهم الاجتماعى والإنسانى، ويعيد الزوج لزوجته، والموظف لعمله، والشقيق إلى أشقائه.
لقد تابعت حالة شاب من أسرة ميسورة كان يخطب فينا بإحدى خطب الشيخ كشك، ثم يتلوها مباشرة بسب الدين مع مجموعة منتقاة من الشتائم البذيئة، ورأيت آخر حاصلاً على الدكتوراه فى الحديث الشريف وهو يسب الدين ويشتم بألفاظ نابية بعد أن اجتاحته نوبة عنيفة من الفصام الذى لم يكن له علاج فعال وحاسم فى هذا الوقت، أما الآن فصار علاجه سهلاً.
أدركت مع هذه الحالات أن أى طبيب لا يعرف الطب النفسى لن يستطيع علاج مرضاه فى أى تخصص، ففى الأمراض الجلدية وحدها هناك قرابة مائة مرض ذات مردودات نفسية مثل الثعلبة، والتهاب الأوعية الدموية الحاد، والداء الفقاعى وغيرها.
ومن أهم الحالات التى قابلتها مرض الوسواس القهرى، وقد رأيت فيها حالات يشيب لها الولدان، ومنها من كان يتقدم لصلاة المغرب فلا يستجمع تكبيرة الإحرام من شدة الوسوسة حتى تدخل صلاة العشاء، ويقف عند حرف الكاف فى كل مرة: الله «أكككــكبر» يقف عندها فترة ثم يفشل فى استكمالها فيضرب وجهه بيده، ثم يعاود التكبير، وهكذا من المغرب حتى العشاء، أو يظل يغسل يديه فى الوضوء عشرين أو ثلاثين مرة فى عذاب ما بعده عذاب.
أما ما هو أغرب منها فهو مَن أصيب بوسواس الهروب من السجن، فتارة يحفر فى الحائط شهوراً من أجل أن يخرج فقط إلى الفناء، أو يخطط أشهراً ليقفز من الزنزانة فى الدور الثالث إلى الدور الأرضى داخل السجن حتى إذا ما وصل إليه نام وكأنه أنهى مهمته وصديق هروبه يوقظه مراراً «اصحى إحنا فى هروب» وطبعاً كل الحراسات استيقظت وأمسكت بهما، وهذا أضر بالجميع ضباطاً وجنوداً ومعتقلين.
ولم تكن وقتها قد اكتشفت البشرية علاجاً حاسماً للوسواس، وبعد اختراع دواء «البروزاك» فأحضرته لهؤلاء المرضى فتحسنوا عليه، ثم تتابعت الأدوية الرائعة لعلاجه.
وقد سخرت عمرى وفكرى لمقاومة أفكار بائسة، منها أن مرض الوسواس هو نتيجة وسوسة الشيطان.