المفتي: تجديد الخطاب الديني واجب الوقت وضرورة الضرورات

المفتي: تجديد الخطاب الديني واجب الوقت وضرورة الضرورات
قال الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية إنّ قضية التجديد والتطوير في البحوث الفقهية من أهم القضايا التي تشغل بال أهل العلم في العالم الإسلامي في وقتنا الحاضر، مشيرًا إلى أنّ هذه القضية التي برزت على أغلب منصات المؤتمرات العلمية العالمية، وتردد صداها في أروقة البحث العلمي الأكاديمي، حتى أصبحت قضيةُ التجديد هي واجبَ الوقت، وضرورةَ الضرورات.
وأوضح المفتي في كلمته الرئيسية بالندوة الدولية حول "تطور العلوم الفقهية" المنعقدة في سلطنة عمان، أنّه بالتجديد يتسنى لنا أن نساير متطلبات العصر والواقع، وأن نحقق مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء من غير إخلال بالثوابت أو إهدار لأي معلوم من الدين بالضرورة.
وأضاف أنّ مصطلح التجديد والاجتهاد بين كل منهما من التلازم والاطراد والارتباط ما يكاد يجعلهما وجهين لعملة واحدة، فالتجديد من لوازم الاجتهاد الصحيح؛ لأن الاجتهاد معناه بذل الفقيه وسعه في استنباط الحكم الشرعي، ويدخل في هذا المعنى بالضرورة فقهُ النوازلِ المعاصرة والقضايا المستحدثة التي لم يرد فيها نصٌّ شرعي، وإنّما يكون ذلك بإدراك علل التشريع وأسراره التي هي مناطات الأحكام الشرعية، والتي يتوقف على معرفتها وإدراك مسالكها في نظر المجتهد عمليةُ الإلحاق أو القياس بشكل تام.
وشدد مفتي الجمهورية على أنّ إدراك الواقع وفهم تطوراته ومتغيراته ركن ركين من أركان التجديد والاجتهاد، ولن تثمر أي جهود للتطوير والتجديد ثمرة حقيقية إلا بدراسة الواقع والتعمق في علومه وفهم تفاصيله وما يطرأ على أعراف الناس وثقافاتهم من تغيير إيجابي أو سلبي.
وأشار إلى أنّ بعض المشتغلين بعلوم الشريعة الإسلامية المهتمين بقضايا التجديد قد يتصور أنّ إدراك الواقع قاصر على مجالات النوازل والمستجدات الفقهية فقط، وحقيقة الأمر أنّ هناك مجالات أخرى أوسع وأرحب تتعلق بالمفاهيم والتصورات العامة الكلية للوجود والحياة والغاية التي يجب أن يتغياها الإنسان من كل معتقداته وأفعاله وتصوراته، أي ما يتعلق بالنموذج المعرفي الإسلامي الذي يواجه ثورة حداثية معرفية شرسة تهدم الثوابت وتقلب الموازين وتعبث بالمفاهيم وتغير التصورات وتتلاعب بالمصطلحات.
وأضاف أنّ هذا النموذج المعرفي الذي يعرف الآن بالعولمة ينطلق في الأساس من إنكار المطلق ومن الاعتقاد بنسبية القيم والأخلاق وتهميش رسالات الأديان، وهذا النموذج ينبغي مواجهته بالنموذج المعرفي الإسلامي بقيمه الأصيلة وبثوابته الراسخة وبأخلاقه المحمدية، لأن نموذج العولمة يحمل في طياته شيوع الفوضى والدمار والفتن والهلاك، وهذا المجال من أهم مجالات التجديد في مجالات الفكر الإسلامي.
وقال المفتي: "لا بد لكل منصفٍ متابعٍ لجهود علماء العالم الإسلامي في مجالات التجديد والتطوير، أن يُثمن جهودَ وزارة الأوقاف والشئون الدينية بسلطنة عمان التي تعقد هذه الندوة المباركة؛ ندوة تطوير الفقه الإسلامي، برئاسة الشيخ عبدالله السالمي وزير الأوقاف والشؤون الدينية، الذي نحمل له وللسلطنة قيادة وحكومة وشعبًا كل تقدير وحب وود، وذلك من خلال ما تطرحه هذه الندوة المباركة من قضايا جادة مهمة تشتد حاجةُ الأمةِ إليها في ظلِّ المتغيرات والظروف الراهنة، واختارت الندوة هذا العام قضيةً معاصرةً غاية في الحساسية والأهمية ألا وهي قضية (فقه المياه في الشريعة الاسلامية أحكامه الشرعية آفاقه الحضارية وقضاياه المعاصرة)".
قضية المياه من القضايا التي تشغل العالم كله.. والصراعات تنشب بين الدول بسبب الجور والطمع والخروج عن المواثيق الدولية
وأضاف فضيلته أنّ المياه نعمة عظيمة من نعم الله تبارك وتعالى، امتن الله بها على الإنسان، وجعل منه آية عظيمة ومعجزة جليلة، قال الله تعالى فيه: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) وقال جل شأنه أيضًا (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُون).
وتابع أنّ "الله سبحانه تعالى جعله الوسيلة العظمى في تطهير الظاهر، والوسيلة المثلى في تهيئة العبد للدخول على الله تعالى بإزالة النجس ورفع الحدث، فهو آلة التطهير في الوضوء والغسل، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا). وكان صلى الله عليه وسلم يقول في مفتتح صلاته : (اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ) متفق عليه.
وأشار إلى أنّه نظرًا لتوقف الحياة كلها على المياه وشدة احتياج الناس إليه في معاشهم، جعله الله في الأصل من المرافق العامة الجماعية التي يشترك فيها عامة الناس، وأكثر الله تعالى منه على اختلاف أنواعه ومصادره، حيث تشير الإحصائيات العالمية إلى أنّ المياه تمثل 74% من مساحة كوكب الأرض، والأصل في المياه أن يكون مشاعًا بين الناس لا يُحمى ولا يحتكر.
وأضاف المفتي أنّ قضية المياه من القضايا التي تشغل بال العالم كله الآن، وهي قضية ذات أبعاد جغرافية وتاريخية وسياسية واقتصادية متشعبة ومعقدة، فالموارد المائية على اختلاف أنواعها تلعب دورًا أساسيًّا في الحياة الاقتصادية والسياسية للدول والشعوب، ويثير الاختلاف حولها كثيرًا من الأزمات والمشكلات السياسية، مشيرًا إلى أنّه من أجل ذلك اهتمت القوانين الدولية الحديثة بعقد الاتفاقيات وإبرام المواثيق الدولية التي تحافظ على الحقوق المشتركة بين دول المنبع ودول المصب، بما لا يضر بمصالح الشعوب، وبما يحقق أفضل استغلال للموارد المائية في المجالات الصناعية والزراعية ومجالات الكهرباء والطاقة دون نزاع أو شقاق.
وقال إنّ الأزمات تحدث وتنشب الحروب والصراعات بين الدول بسبب الجور والطمع والخروج عن المواثيق والمعاهدات الدولية التي وازنت بين الحقوق والواجبات بميزان الحق والعدل"، مشيرًا إلى أنّ الله سبحانه وتعالى خلق الأرض وما عليها من بشر وحيوان ونبات وقدر الأقوات والأرزاق بما يكفي حاجة البشر عبر القرون والأزمان، قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِين}.
وفي ختام كلمته قال المفتي إنّه في مجال المياه والطاقة المائية وهندستها في القرآن الكريم تعددت أبحاثُ العلماء المعنيين بقضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ولا زالت آيات المياه تمثل مكنزًا ثريًّا لمزيد من الجهود والأبحاث التي تبرز الجوانب الحضارية لقضايا المياه من خلال تدبر آيات القرآن الكريم.