عصام زكريا يكتب لـ"الوطن": نور الخيال وصنع الأجيال فى «القاهرة السينمائى»

عصام زكريا يكتب لـ"الوطن": نور الخيال وصنع الأجيال فى «القاهرة السينمائى»
- تيرى جيليام
- مهرجان القاهرة السينمائى
- الفن
- أخبار الفن
- فن
- تيرى جيليام
- مهرجان القاهرة السينمائى
- الفن
- أخبار الفن
- فن
صدفة غريبة أن تعقد ندوة تكريم المخرج البريطانى تيرى جيليام فى مهرجان القاهرة السينمائى صباح عيد ميلاده التاسع والسبعين. ويزيدها طرافة أن يكون مدير الندوة المخرج عمرو سلامة، من مواليد اليوم نفسه، 22 نوفمبر!
صدفة ربما تعكس العالم الغريب الذى يهواه تيرى جيليام ويعبر عنه فى أفلامه، قليلة العدد، شديدة الخصوصية والغرابة. من بدايته كرسام ساخر، وانضمامه لفريق عمل سلسلة أفلام «مونتى بيثون» البريطانية، ذات الفكاهة الصاخبة الجنونية، وحتى فيلمه الأخير «الرجل الذى قتل دون كيشوت» الذى خرج للنور فى العام الماضى بعد سنوات طويلة من التعثر...مسيرة يمكن أن ينطبق عليها عنوان عمنا الشاعر المصرى فؤاد حداد «من نور الخيال.. وصنع الأجيال».
تيرى جيليام يستحق التكريم بكل تأكيد، ليس فقط لأنه صانع أفلام جيد ومشهور، ولكن لأن لأفلامه هذه الخصوصية التى باتت عملة نادرة فى زمن الأفلام المعلبة المتشابهة، مثل دمية «باز لايت يير» من فيلم «توى ستورى» الذى يكتشف فجأة أنه مجرد نسخة مكررة من آلاف الدمى مثله! وبالفعل معظم أعمال جيليام تتناول هذه الفكرة عن الفرد الذى يجد نفسه وقد تحول إلى شىء أو ترس أو دمية فى مصنع للدمى، يحاول التمرد والخروج بأى وسيلة حتى لو كان عبر الخيال!
وُلد تيرى جيليام فى أمريكا 1940، وهاجر إلى بريطانيا فى نهاية الستينيات بحثاً عن الحرية والاستقلال، وعمل كرسام لسنوات مع فريق «مونتى بيثون» حتى شارك فى إخراج واحد من أظرف وأنجح أعمال هذه السلسلة بعنوان «مونتى بيثون والكأس المقدس» عام 1975، قبل أن يقوم بإخراج أول أفلامه «جابروكى» عام 1977، وهو فيلم رسوم متحركة طويل يروى حكاية خيالية فى زمن قديم عن طفل يدخل فى مغامرة بحثاً عن تنين. ولعل الفارق بين هذا الفيلم وقصص الأطفال الأخرى هو الأبعاد الاجتماعية التى يعطيها للموضوع، حيث يدين الظروف الاقتصادية والخوف من المجهول، التنين، الذى يشل الناس ويجعلهم كالأسرى، أو كالسائرين نياماً.
تتكرر الفكرة فى فيلم جيليام التالى «لصوص الزمن»، 1981، ومع أنه ليس من نوعية الرسوم كفيلمه الأول، إلا أنه شاطح الخيال أيضاً، ويبدو كحكاية رسوم للأطفال. يدور الفيلم حول صبى فى الحادية عشرة من العمر يعشق قراءة كتب التاريخ، بينما لا ينشغل أبواه سوى بشراء أحدث المنتجات ليصبحوا مثل بقية جيرانهم، وذات ليلة يزور الصبى فارس على حصان قادم من الماضى ليصحبه فى رحلة خيالية عبر الزمن، يزور فيها نابليون بونابرت وروبن هوود ويصل إلى بلاد الإغريق.
تتكرر فكرة الإبحار عبر الأماكن والأزمان بشكل آخر فى فيلم جيليام التالى «برازيل»، 1985، الذى يعد أشهر وأنجح أعماله وأكثرها تأثيراً على السينما العالمية. وعلى سبيل المثال فقد تأثر به المخرج المصرى الراحل رأفت الميهى فى فيلمه «سمك لبن تمر هندى»، 1988، الذى يتشابه كثيراً مع «برازيل» فى حبكته الأساسية ونقده الاجتماعى الساخر.
«برازيل» عمل سيريالى، خيالى، عبثى، أشبه بأحلام المجانين، فى شكل قصة خيال علمى، من تلك النوعية التى يطلق عليها «ديسيوتوبيا»، أى «المدينة غير الفاضلة»، على عكس رواية «المدينة الفاضلة» للأديب الانجليزى توماس مور، التى تتخيل مدينة مستقبلية تسود فيها المثل العليا والأخلاق والعدل.. أما «الديسيوتوبيا» فعلى العكس تدور حول مدن يتجسد فيها الظلم والفساد وانعدام الضمير والأخلاق.
يشبه «برازيل» رواية «1984» لجورج أورويل من بعض النواحى، ولكن فى قالب أكثر خيالية وكوميدية، وبالطبع أكثر سينمائية، حيث تتجلى هنا قدرة تيرى جيليام الفذة على صنع أكثر الصور غرابة وتأثيراً.
فى فيلمه التالى «مغامرة البارون مونشهاوزن» يعود جيليام إلى أوروبا القرن الثامن عشر، ليروى قصة خيالية أخرى حول بارون مسن يهرب من الحرب المحيطة ليدخل فى مغامرات يذهب فيها للقمر، وتبتلعه سمكة.. إلى آخره.
يقول جيليام عن أعماله الثلاثة الأولى أنها تمثل ثلاثية تدور حول قدرة الخيال على مواجهة قبح الواقع، مرة من خلال عقل طفل، ثم من خلال عقل رجل متوسط العمر، وأخيراً من خلال عقل رجل عجوز.
واحد من أفضل أعمال تيرى جيليام هو فيلمه التالى «الملك الصياد»، أو بالأصح «فيشركينج»، لأنه يشير إلى اسم نوع من السمك، الذى صنعه فى أمريكا عام 1991 ولعب بطولته كل من جيف بريجيز والراحل روبن ويليامز فى واحد من أجمل أدواره.
ويدور الفيلم باختصار حول مذيع راديو مغرور وصفيق تتسبب تعليقاته السخيفة على أحد المتصلين فى ارتكاب مذبحة يروح ضحيتها عدد من الأبرياء. يمر المذيع بحالة ندم وانعدام توازن إلى أن يلتقى برجل «متسول» مشرد، يصبح مدخله إلى قلب المدينة والعالم، ويتعلم منه معنى الحياة مجدداً.
يعود جيليام فى فيلمه التالى «12 قرداً»، 1995، إلى نوعية الخيال العلمى، بميزانية ضخمة ونجوم هوليوديين منهم بروس ويليز وبراد بيت، فى عمل ناجح ومثير للمشاعر والتفكير، والأكثر من ذلك أنه أطلق موجة من أفلام الخيال العلمى المماثلة التى اجتاحت السينما الأمريكية بعدها.
«خوف وغضب فى لاس فيجاس» كان فيلمه التالى من بطولة جونى ديب وبينيثيو ديل تورو، عاد فيه إلى أرض الواقع والزمن الحاضر، ولكن من خلال رحلة نفسية لاثنين من المدمنين بالسيارة عبر الولايات الأمريكية.
يتجلى عشق جيليام للحكايات الخيالية فى فيلمه التالى «الإخوان جريم»، 2005، وهو مزيج من سيرة الأخوين جريم، اللذين نقلا كثيراً من الحكايات الشعبية للغة الألمانية، مع خلطها ببعض هذه الحكايات نفسها!
فى العام الماضى قدم تيرى جيليام آخر أعماله «الرجل الذى قتل دون كيشوت»، ليثبت فيه أن الرجل الذى يقترب من الثمانين لم يزل يحتفظ بخيال الطفل الصغير، وروح المراهق المثالى الذى حمل حقيبته ذات يوم من أيام الستينات، ليرحل عن أكبر بلد فى العالم، باحثاً عن ذاته وشخصيته المتفردة.