حكاية الأخ عطوة.. وسقطة «صدى البلد»

د. لميس جابر

د. لميس جابر

كاتب صحفي

لن تكون الأخيرة هذه السقطة الإعلامية وقد سبقتها سقطات من محطات أخرى وقلنا وتكلمنا ولكن لا أحد يسمع.. الحكاية بدأت منذ سبع سنوات تقريباً برجل يدعى كذباً وخرفاً أنه المتهم الثالث فى قضية محاولة اغتيال جمال عبدالناصر فى المنشية وخرج فى عدد من القنوات وتحدّث ببعض المعلومات الباقية لديه من تلك الأوقات ولكنها مشوشة وغير مرتبة وكثير منها تأليف وتوليف، ولكن اندهاش وانبهار وتعجب السادة المذيعين بالمعلومات الخاطئة خلق لديه عشقاً شديداً للإعلام الذى لم يقصّر الصراحة حتى أصبح هذا المجهول بطلاً للواقعة، وإذا بحث أحد الآن على جوجل وكتب «حادث المنشية» سوف يظهر له السيد خليفة مصطفى عطوة يثرثر نفس الكلمات فى كل البرامج ويقول إن «عبدالناصر» أرسل له هو بالتحديد وقابله وعفا عنه ثم عينه سكرتيراً خاصاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. وصلنا إلى هذه المرحلة من التجهيل بالتاريخ لأن فرق الإعداد الخاصة بالتوك شو قد صنّفت الأخ عطوة بأنه المرجع والدليل التاريخى للحدث، خاصة وهو شاهد عيان والمتهم الثالث بالأمارة، ولأن السادة المذيعين -مع شديد احترامى- لا يكلفون أنفسهم عناء فتح كتاب واحد، ولماذا؟ والأخ جوجل يقول حادثة المنشية وخليفة عطوة متحدان إلى الأبد، وهذه مصيبة فى حد ذاتها أن يؤلف التاريخ ويوثق و«يلزق» فى جوجل بهذا الشكل.. لن أسرد ما قاله هذا الكاذب ولكنى سأسرد الحكاية من بين صفحات الكتب.

فى 18 يناير 1953 تم حل الأحزاب كلها ما عدا جماعة الإخوان المسلمين، بل تم الإفراج عن قتلة «الخازندار» و«النقراشى» مجاملة للإخوان، وزاد عشم الإخوان فى الضباط الأحرار وطلبوا ثلاثة وزراء فى الوزارة منهم «الباقورى» للأوقاف ومعه منير الدلة وحسن عشماوى، ورفض مجلس قيادة الثورة الاثنين، ووافق على «الباقورى» فقط.. غضب الإخوان وقرروا عدم الاشتراك فى الوزارة وطلبوا من «الباقورى» الاستقالة ولكنه رفض فتم طرده من جماعة الإخوان!.

وقبل ذلك بقليل كانوا قد طلبوا أن يُعرض عليهم أى تصرف من قبَل رجال الثورة قبل إقراره، بل وطلبوا وضع مكتب لهم داخل مجلس الوزراء لمراجعة كل ما يحدث.. رفض «عبدالناصر» وقال إن هذه الثورة قامت دون وصاية ولن تقبل وصاية من أحد.. بدأ الإخوان الاتصال بالإنجليز والتباحث معهم على قلب نظام الحكم، وقرروا اختراق الجيش والبوليس وتأليب فرق الجيش على بعضها البعض.. ثم بدأ الشغب والضرب والحرق فى الجامعات وتم اعتقال 450 منهم «الهضيبى» ثم أُفرج عنهم بعد ذلك فاضطر «عبدالناصر» إلى حل جماعة الإخوان المسلمين فى 14 يناير 1954.. اشتدت الحركة بعد حلها واتسع نطاق العمل السرى ويبدو أنهم فى تلك الأيام كانوا قد قرروا بدء حركة الاغتيالات كما نجحوا من قبل مع النقراشى باشا بعد حل الجماعة.. فى 26 أكتوبر 1954 كان «عبدالناصر» يخطب فى المنشية بالإسكندرية فى احتفال شعبى كبير بمناسبة اتفاقية الجلاء، وبينما هو يقول «أحتفل معكم اليوم بعيد الجلاء.. عيد الحرية.. عيد العزة والكرامة»، دوت فى الميدان ثمانى رصاصات صوبت فى اتجاه «عبدالناصر».. ارتج السرادق وخرج الكثيرون مهرولين وحاول حرس «عبدالناصر» أن يخرجوه فرفض وأمسك بالميكروفون وصرخ بجملته الشهيرة «فليبق كلٌ فى مكانه»، وخطب فى الناس التى اشتعلت حماساً وتصفيقاً.. الجانى هو محمود عبداللطيف -سمكرى- من إمبابة من الإخوان المسلمين، كان جالساً أمام «عبدالناصر» على بُعد 15 متراً.. الرصاصتان الأولى والثانية أصابتا الأستاذ أحمد بدر، المحامى، الذى كان يبعد عن «عبدالناصر» بربع متر فقط.. الثالثة أصابت مصباحاً كهربائياً فوق المنصة فانفجر وأصيب الأستاذ ميرغنى حمزة، الوزير السودانى، ونُقل الاثنان إلى مستشفى المواساة. ولم يصب «عبدالناصر» بأى من باقى الرصاصات التى ارتطمت بالمنصة. ثبت من التحقيق أن المؤامرة لم تكن مقصورة على اغتيال «عبدالناصر» فقط، بل كانت هناك خطة مرسومة لاغتيال أعضاء مجلس قيادة الثورة ونحو 160 من ضباط الجيش.. ضُبطت وقتها مخازن سلاح ومفرقعات تابعة للإخوان تكفى لنسف جزء كبير من القاهرة والإسكندرية، وأثناء التحقيق مع محمود عبداللطيف اعترف بأنه قد طُلب منه ارتداء «قميص ناسف» والدخول على «عبدالناصر» فى الزحام واحتضانه وتفجير نفسه معه ولكنه خاف ورفض، وكانت هناك مؤامرة أخرى دبرها البكباشى أبوالمكارم عبدالحى من ضباط الجيش لنسف الطائرة التى أقلّت «عبدالناصر».. وكان «الهضيبى» قد تخلّص من الجهاز السرى القديم بتفجير السيد فايز، بواسطة علبة حلوى مولد مفخخة وقُتل معه شقيقه الأصغر وطفلة 9 سنوات سقطت فوقها بلكونة المنزل، ويبدو أن «الهضيبى» قد خشى غدر الجهاز السرى فأعلن أنه لا سرية فى الدعوة، وتخلّص من السيد فايز، مدبر مقتل «البنا»، ثم جاء بعبدالمنعم عبدالرؤوف، من الضباط الأحرار، وهو إخوانى، ليؤسس له «جهازاً سرياً» آخر جديداً.. والمتهمون هم: محمود عبداللطيف - يوسف طلعت - هنداوى دوير «الذى أقنع محمود عبداللطيف بالعملية وأعطاه أموالاً ليسافر إلى الإسكندرية ويقيم فى لوكاندة» - إبراهيم الطيب - عبدالقادر عودة «وهو الذى أحضر لعبداللطيف المسدس والرصاصات» - محمد فرغلى - حسن الهضيبى.. حُكم على المتهمين من الأول إلى السادس بالإعدام شنقاً وخُفف الحكم على «الهضيبى» وخرج بعد ذلك بالعفو الصحى، وحُكم على المتهمين من الثامن إلى الرابع عشر بالأشغال الشاقة المؤبدة، والخامس عشر والسادس عشر والعشرين بخمسة عشر عاماً، وثلاثة حصلوا على البراءة منهم عبدالرحمن البنا، شقيق حسن البنا.. تألفت محكمة الشعب أول نوفمبر 1954 وصدر الحكم فى 4/12/1954، وكانت المحكمة برئاسة جمال سالم وعضوية حسين الشافعى وأنور السادات، وتألفت ثلاث دوائر للنظر فى القضايا وعُقدت الجلسات فى مبنى الكلية الحربية فى الخليفة المأمون، وكان عدد الذين حكمت عليهم محكمة الشعب 867 وعدد الذين حكمت عليهم المحاكم العسكرية 254 ووصل عدد المعتقلين فى 14 أكتوبر 1955 بعد كشف مخابئ سلاح الجهاز السرى إلى 2943 معتقلاً.

وهكذا يتضح أن اسم المتهم الثالث والمدعو «عطوة» غير موجود تماماً فى هذه القضية.. ربما قُبض عليه لفترة وجيزة مع هذه الأعداد الغفيرة ولكن البحث عن دور و«بطولة عبيطة» وانتشار إعلامى جعله يتخيل هذه الأوهام، ولكن أعود لأقول.. الذنب ليس ذنب خليفة عطوة.. ولكنه ذنب الاستسهال واللامبالاة فى الإعلام لدرجة أن من تابع حديث الرجل مع «صدى البلد» يجده وقد وضع الإخوان فى موضع الفدائيين والوطنيين وحاجة زى الفل..

نحن لا نحتاج إلى إعلام مضاد يزيف لدينا الوعى.. الحمد لله عندنا اكتفاء ذاتى، وبالمناسبة نشرت تفاصيل المحاكمة كلمة كلمة فى ستة أجزاء بعنوان «محكمة الشعب».. وهذا للعلم.