دار الإفتاء وعبور الفجوة
كعادتها فإن دار الإفتاء المصرية سبَّاقة فى تأمل ما يدور حولها من قضايا المجتمع، وكان من التوفيق أن تختار موضوع «الإدارة الحضارية للخلاف الفقهى» عنواناً لمؤتمرها الأخير، خاصة أن الخلاف اليوم تستولى على أطرافه روح الضيق بالمخالفين، وتتسلل إليه الحدة والشدة، والمسارعة إلى اتهام الناس فى عقائدهم ونياتهم، مما جعل البعض يترك ساحة الحوار إيثاراً للسلامة، وتجنباً لسوء الظنون.
ويرى باحثون أن المنهج المختل فى إدارة الحوار للخلاف هو طبع عربى عام، وليس وقفاً على الحوار الدينى وحده، وأن نظرة سريعة على الحوار الدائر من حولنا تردنا إلى واقع مرير، حين نرى السهام الطائشة مشرعة فى مبارزات كلامية غايتها القضاء على المخالف، واستباحة الحقيقة، وتزييف الواقع، ولذلك فإن «الإدارة الحضارية» للخلاف، التى تبنتها دار الإفتاء المصرية بقيادة مفتيها العالم الجليل فضيلة الدكتور شوقى علام، إنما تشعل الجذوة لإدارة حضارية للحوار العربى فى كافة المجالات السياسية والرياضية والفنية والاقتصادية.
إن دار الإفتاء بفروعها وهيئاتها المختلفة لهى تستحق التقدير، لأنها أنجزت فى مسارين: مسار «المواجهة» ومسار «إدارة حضارية للخلاف الفقهى»، ذلك أن الفكر المنحرف، ممثلاً فى جماعة الإخوان والجماعات المماثلة، تلزم مواجهته مواجهة علمية فكرية، لأنه يدعو للفوضى والتخريب، ويبعث فكر الخوارج القدامى، ويحول الفروع إلى أصول، ويحدث شقاقاً وضجيجاً فى العقل المسلم، فالسبيل هنا هو المواجهة، لأننا لسنا أمام رأى آخر، بل أمام منهج يغيّب العقل، وينقض المعرفة، وينشر الخرافة، ويهدم المؤسسات.
ثم هناك رأى آخر وتفسيرات اجتهادية، وخلافات فقهية معتبرة، والسبيل هنا هو الحوار والتقارب، ووضع أسس ومعالم لهذا الحوار، تجمع الشمل، وتقبل الآخر، وتحتفى بحرية الرأى، وتدرك حقيقة الصلة بين حرية الرأى والعطاء الحضارى.
يأتى مؤتمر «الإدارة الحضارية للخلاف الفقهى»، الذى عُقد تحت مظلة «الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم»، التى يتولاها فضيلة الدكتور إبراهيم نجم، مستشار فضيلة المفتى، الأمين العام للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، لينمى قضية الإحساس بالمسئولية، ويشجع على الإقدام على إدارة حضارية للخلاف فى ظل حالة الاعتكاف الحضارى الذى نعيشه اليوم، فحين نتكلم عن «إدارة حضارية للخلاف الفقهى»، فإن دار الإفتاء المصرية تسرع الخطى نحو رؤية العالم ومعرفة تطلعاته وأفكاره وأدوائه وعلله.
وهكذا فإن دار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء والهيئات الأخرى المتفرعة من هذا الصرح العلمى لم تتردد فى ممارسة الاجتهاد، وتجديد الخطاب الدينى فى حدود المتاح لها، ودعم المنهج الأزهرى القائم على أشعرية العقيدة، وخلق التصوف، والمذهبية الفقهية، بعد أن تردد البعض فى مواجهة التطرف الفكرى، وعجز آخرون عن ذلك.
وقبل ذلك كله نشطت الدار من خلال أمناء الفتوى فى ملاحقة ما يهم الناس بأجوبة واضحة فى قضايا الأسرة والمؤسسات المالية والبنوك والمعاملات اليومية والعبادات والتصوف والزكاة والموسيقى والمعازف والسياحة.. إلخ، فأزالوا الحرج والقلق، ورفعوا الالتباس، وقالوا كلمتهم الهادئة للمجتمع، ليقيم حياته بلا عسر أو حرج أو وصاية من أحد.
وتمضى دار الإفتاء نحو عبور الفجوة، بالرصد والتحليل والإحصاء ووجود مؤشر الإفتاء الذى يعتمد على لغة الأرقام، وينفض المؤتمر لكن ليس كما ينفض غيره من المؤتمرات، ولكن ينفض كعادته على توصيات محل تنفيذ واهتمام، فتحية لفضيلة المفتى وللقائمين على المؤتمر والأمانة العامة وتحية للعلماء الأجلاء الذين شاركوا من مصر وخارجها.