متابعة محاولات العزل
هذه دعوة لالتقاط الأنفاس، وتهدئة الأعصاب، واسترخاء عضلات الوجه المتوترة والأيادى التى تدق دون هوادة للتدوين والتغريد والإفتاء والـ«لايك» والـ«شير». الأسابيع الماضية كانت متخمة بقدر هائل من الأحداث والحوادث وردود الفعل والترقبات والتوجسات. ولأنها كانت متخمة، فقد وجد الكثيرون منا أنفسهم مضطرين أو منغمسين أو منفعلين بالأجواء الحامية ومجاراة الأجواء والعواصف بأجواء أعتى وعواصف أشد كعادتنا.
وكالعادة يحتاج الإنسان إلى استراحة قصيرة لشحذ الهمة وشحن الطاقة. وحيث إننا فى بداية عام دراسى تستحيل معه العودة إلى المصيف أو الاستسلام للكسل الصيفى، فيمكننا متابعة الحلقات المسلسلة من محاولات عزل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
ملحوظة مهمة لمن يريد الخروج من هذه المتابعة الشيقة جداً بقدر كبير من المتعة والاستفادة: هذه من المتابعات القليلة التى لا تستوجب استقطاباً أو تتطلب توجهاً فكرياً بعينه أو تستوجب أن يدلو كل منا بدلوه كخبير استراتيجى أو سياسى أو قانونى. فنهدأ قليلاً على سبيل التغيير، ونسند ظهورنا على كنباتنا، ونحضر مشروبنا المفضل ونستمتع بالمتابعة.
محاولات عزل «ترامب» ليست وليدة الأمس حيث المكالمة الهاتفية التى صارت الأشهر فى العالم. المكالمة التى يقول معارضو «ترامب» إنه استخدم خلالها منصبه الرئاسى للضغط على رئيس أوكرانيا ليحصل على معلومات من شأنها إلحاق الضرر بمنافسه الديمقراطى جو بايدن، قلبت أمريكا رأساً على عقب. وعلى الرغم من ظهور تفاصيل جديدة على السطح على مدار الساعة، بدءاً بانضمام شهود جدد على المكالمة ومحتواها، مروراً برد أنصار «ترامب» باتهام لـ«بايدن» باستغلال سلطته للضغط على أوكرانيا لوقف التحقيق الجنائى الذى قد ينجم عنه ثبوت تورط ابنه هنتر وآخرين بينهم ساسة ورجال أعمال أوكرانيون فى 15 قضية جنائية. ويشار إلى أن هنتر بايدن كان عضواً فى مجلس إدارة شركة طاقة كبرى يمتلكها مليونير أوكرانى.
التفاصيل التى تظهر على مدار الساعة بالغة الإثارة. كل تفصيلة تقول الكثير عن طبيعة السياسة الأمريكية. الحزب الديمقراطى يمعن فى الدق على كل وتر من أوتار الملف ومعه تعزف وسائل الإعلام الأمريكية المناهضة لـ«ترامب» والكارهة له والمبيتة نية الانتقام «المهنى» منه على مدار سنوات أوركسترا تستحق كل نغمة فيه أن تخضع للبحث والتحليل والتعلم واكتساب الخبرات.
وفى المقابل، فإن الجمهوريين واقعون فى حيص بيص إلى حد كبير. تارة يقولون إن المكالمة ليست دليل إدانة لـ«ترامب»، وأخرى يحاولون تبرير محاولة الضغط على أوكرانيا بأنها جهود لمحاربة الفساد أينما كان، وثالثة يتخبطون فى رد الفعل أو يلتزمون الصمت لحين إشعار آخر. ومعهم المؤسسات الإعلامية -شأنهم شأن الديمقراطيين- التى ظلت تدعم وتدافع عن الرئيس الأمريكى على طول الخط وفى الجبهة المقابلة للإعلام المعارض له. ونذكر على سبيل المثال «فوكس نيوز» وهى ضمن الأعلى مشاهدة (إن لم تكن الأعلى) للمواطن الأمريكى العادى الذى تتمحور أغلب اهتماماته فى قضايا أمريكا الداخلية.
ورغم هذا الزخم الرهيب، إلا أن محاولات عزل «ترامب» وهذه الحرب المكتومة لكن سريعة الاشتعال تعود إلى سنوات مضت. فى عام 2017، أنفق المليونير الأمريكى توم ستاير نحو عشرة ملايين دولار أمريكى على إعلانات مدفوعة مطالبة بـ«عزل ترامب». الأسباب المعلنة فى الإعلانات والتى كانت تبثها «سى إن إن» تشير إلى: اتخاذ «ترامب» إجراءات من شأنها أن تؤدى إلى حرب نووية، التهديد بإغلاق مؤسسات إعلامية، قبول أموال من حكومات أجنبية وغيرها. وكان «ستاير» يظهر فى الإعلانات داعياً المواطنين الأمريكيين الوطنيين للضغط من أجل عزل ترامب «الخطير». وفى يوليو الماضى، أعلن «ستاير» أنه سيترشح فى الانتخابات الأمريكية.
متعة المتابعة مستمرة لبعض الوقت، وجزء لا يتجزأ من المتعة يكمن فى متابعة ردود الفعل لمحاولات العزل، ليس فقط من قبل الرئيس «ترامب» نفسه، أو البيت الأبيض.
ولأن السياسة تتلون دائماً وأبداً بألوان المصالح، فإن متابعة صمت أو صخب ردود الفعل الدولية الرسمية درس منفصل تحت عنوان «السياسة مصالح فقط»، علها تمحو خيالات وتصحح مفاهيم بأن المشاعر وأحاسيس الاستلطاف أو الاستثقال تؤثر فى موازين القوى الدولية.
وإقليمياً، وفى خضم ما يجرى فى سوريا والعراق وتركيا ومصير الأكراد الموضوع على المحك، ورياح الخريف العربى التى لم تخمد بعد هنا وهناك، تجد ردود الفعل مصبوغة بألوان الأيديولوجيا الزاعقة. نظرة سريعة إلى القنوات العربية بأنواعها، تجد من يستعد للرقص على نعشه، ومن يضع يده على قلبه خوفاً من رحيله أو عزله، ومن يمعن فى الإمساك بالعصا من المنتصف، فإن بقى فهو صديق وعزيز، وإن رحل فهو لا صديق ولا عزيز.. ومتعة المتابعة مستمرة.