"المنازل البيئية" ترحب براغبى الجمال: لا تحتاج إلى تكييف.. وتكلفة المنزل 85 ألف جنيه

كتب: خالد عبد الرسول

"المنازل البيئية" ترحب براغبى الجمال: لا تحتاج إلى تكييف.. وتكلفة المنزل 85 ألف جنيه

"المنازل البيئية" ترحب براغبى الجمال: لا تحتاج إلى تكييف.. وتكلفة المنزل 85 ألف جنيه

على بعد نحو 20 كيلومتراً من القاهرة بمبانيها الشاهقة، العشوائية منها والمقننة، وتحديداً فى قرية «كفر حكيم» بالجيزة، يوجد «منزل الأخوات الثلاث»، وهو أحد أبرز نماذج العمارة البيئية الخضراء، التى بناها أحد رواد هذه المدرسة المعمارية بمصر، وهو المهندس عادل فهمى، أستاذ العمارة بجامعة العلوم الحديثة.

ما إن تفتح البوابة الرئيسية للمنزل المطلة على حديقته، حتى يأخذك المنزل الذى تم بناؤه قبل 14 عاماً، ببساطته وجماله، ثم سرعان ما تندهش حين تعرف أن هذه التحفة المعمارية مكونة بنسبة 99% تقريباً من الطين، دون استخدام أى خرسانات فى البناء.

هذا البيت الواقع وسط منطقة قصور تكلف بناء كل منها ملايين الجنيهات، لم تزد تكلفته وقتها على 85 ألفاً، وهى التكلفة التى لم يطرأ عليها تغيير كبير حتى الآن، بحسب «فهمى»، لأن أسعار مواد البناء المستخدمة فيها لم يطرأ عليها تغير يذكر أيضاً.

إنه بيت «الأخوات الثلاث» نسبة إلى صاحبات البيت، وهن 3 سيدات يعملن أساتذة بالجامعة، قادتهن ثقافتهن إلى ضرورة البعد عن مواد البناء الحديثة الملوثة للبيئة والمؤثرة على صحة الإنسان، والعودة إلى الطبيعة مرة أخرى فى البناء.

تكلفة الألف طوبة منه 350 جنيهاً

يقول فهمى: «أثناء البناء لم نستخدم أى آلات أو مواد بناء أو تشطيبات تستهلك طاقة، ومن ثم ينتج عنها تلوث وثانى أكسيد الكربون، حيث كانت مادة البناء الرئيسية مكونة من الطوب الطينى المقوى «compressed earth blocks»، ويبلغ سعر الألف طوبة منه نحو 350 جنيهاً، وهى نصف تكلفة الطوب الأحمر تقريباً، هذا فضلاً عن أنه لا يحتاج لبنائه أى أسمنت».

البناء من "الطوب الطينى المقوى" دون أسمنت .. ويتميز بامتصاص ثانى أكسيد الكربون

لا يحتاج «الطوب الطينى المقوى» أيضاً إلى الحرق، وبالتالى لا ينتج عنه تلوث للبيئة، مثلما هو الحال مع الطوب الأحمر، وهو يستمد قوته من مكوناته التى تم تطويرها عبر دراسات وتجارب عدة، التى تشمل: الطين (الطفلة الصحراوية) والرمل وحبيبات صغيرة من الزلط، فضلاً عن الجير، وهى كلها مكونات غير ملوثة للبيئة، حسبما يؤكد المهندس المعمارى الذى درس العمارة فى ألمانيا، وبالإضافة للمواد السابقة، تأتى مادة «الجير» الطبيعية التى استخدمها القدماء المصريون فى مبانيهم، والتى تعتبر مادة مضادة للحشرات، فضلاً عن قدرتها، هى والطفلة، على امتصاص ثانى أكسيد الكربون، أحد أخطر ملوثات البيئة التى تؤثر سلباً على الصحة، والذى تفرزه المبانى الخرسانية المجاورة.

وتمتلك هذه الطوبة، وفقاً لفهمى، قدرة فائقة على العزل الحرارى، ففى فصل الصيف مثلاً حين تكون درجة الحرارة بالخارج 38 درجة مئوية، فإنها تزيد فى حوائط المبانى الأسمنتية لتصبح داخل هذه المبانى 40 درجة مئوية، بينما تكون درجة الحرارة داخل المبانى الطينية 28 درجة مئوية.

بعد اجتياز المدخل الرئيسى للبيت، يجد الزائر نفسه فى منزل لا يقل جمالاً عما يبدو عليه بالخارج، حيث مصادر الإضاءة الطبيعية تنعكس على عناصر معمارية، وقطع أثاث أشبه بالتحف، ولوحات فنية من التريكو والكليم تزين الحوائط، وأرضيات مستوية نظيفة من الحجارة الطبيعية.

كان من الملاحظ أيضاً أنه إلى جانب هذه العناصر المعمارية والفنية المكونة كلها من مواد طبيعية، توجد أحدث سبل الحياة الحديثة، وهو ما بدا فى المطبخ الذى تعلوه قبة بالحجارة ذات طراز خاص، بها 4 فتحات مغطاة بالزجاج تسمح بدخول الإضاءة الطبيعية، تم اقتباسها من قبة مصرية قديمة يعود عمرها لـ4 آلاف سنة بعد تطويرها، ومن تحتها كان جهاز ميكروييف وثلاجة وأدوات مطبخ حديثة.

هنا يتدخل المهندس الذى أبدع هذه التصميم، قائلاً: «على عكس المفهوم القديم عن المبانى الطينية الذى يعتبرها مبانى قديمة لا تتوافق مع الحداثة، فإن العمارة الطينية والصديقة للبيئة بشكل عام، لا سيما بعد تطويرها إلى هذا الحد، يمكن أن توفر لسكانها أحدث سبل الراحة والمتعة».

ولم يكن غريباً إذاً أن يعتبر الأوروبيون الآن أن مبانى الطين، هى «أحدث الحداثة فى العمارة.. أو أنها حتى مبانى ما بعد الحداثة»، لا سيما وقد وصلوا بها الآن إلى مستوى التشطيبات «السوبر لوكس»، مع مراعاة استخدام المواد البيئية غير المُلوثة للبيئة.

ومن المعروف أن مصر تعانى من معدلات تلوث مرتفعة، وتعتبر عاصمتها، القاهرة، وفقاً لتقارير دولية، أكثر المدن تلوثاً فى العالم، ولذلك يقول «فهمى»: «معنى أن مصر هذا البلد الجميل، ملوث بهذا الكم الهائل، أن أهله لا يتمتعون بصحة تجعلهم يكونون منتجين أكفاء أو على الأقل يشعرون بالسعادة، ومن هنا تبدأ المشكلة، التى تجعلنا نسأل أنفسنا عن الأسباب التى جعلتنا نصل لهذه الدرجة؟».

يجيب المهندس المعمارى المعنى بشئون البيئة والمدرك لمخاطر تلوثها على الإنسان: «هناك أسباب كثيرة للتلوث البيئى، من أهمها المواصلات والمصانع التى تبث كماً هائلاً من التلوث وانبعاثات غاز ثانى أكسيد الكربون، وبالإضافة لما سبق نجد أن العمارة ساهمت بجزء كبير جداً فى هذا التلوث»، يضيف «فهمى» موضحاً: «الأسمنت الذى لا يكاد يخلو منه منزل فى القاهرة مسئول عن 7.2% من إجمالى التلوث بها، وتنتج هذه النسبة عن طريق تصنيع الأسمنت والأدخنة والتلوث الذى ينبعث عن عملية الإنتاج، هذا فضلاً عن استخدامه فى المنشآت، حيث ينتج عنه انبعاث لثانى أكسيد الكربون co2»، وهو يربط بين التلوث والصحة والقدرة على الإنتاج والتقدم، قائلاً: «عشان نتقدم محتاجين إنسان منتج، وعشان الإنسان يبقى منتج لازم يتمتع بصحة جيدة وراحة بال، لكن كيف يحدث ذلك بينما يحيا فى بيت غير صحى، لا توجد به تهوية صحية، وبه مواد ملوثة تضيف لأسباب التلوث المحيطة به».

من هنا كان سعى العالم، ومعه المعماريون المصريون المؤمنون بالعمارة البيئية لإنتاج نمط مختلف من العمارة، على غرار «منزل الثلاث أخوات»، يقدم نموذجاً لكيف يمكن أن يحيا الإنسان حياة صحية وغير ملوثة للبيئة وللساكن نفسه، ويجنبه الارتفاعات الكبيرة فى درجات الحرارة، مع ما يستتبعها من احتياج لاستخدام أجهزة التكييف الضارة بالصحة.

ويخلو منزل الثلاث أخوات من أى أجهزة تكييف، وهو يعتمد فى تهويته على «ملقف هواء» يعمل على تحريك الهواء داخله عند الحاجة، بمساعدة بقية مداخل ومنافذ الهواء الأخرى، وهو الأمر الذى يعمل على تلطيف درجة الحرارة به بالتوازى مع قدرة الطوب الطينى على العزل الحرارى وتقليل درجة الحرارة بالداخل، علماً بأن فاتورة كهرباء المنزل لا تتعدى 60 جنيهاً، فى الوقت الذى ترتفع فيه بالنسبة للقصور والفلل المجاورة لتصل لنحو 3 آلاف جنيه.

هنا يشير «فهمى» إلى أن كل القياسات العلمية من خلال الأجهزة الحديثة جاءت لتثبت تفوق العمارة البيئية الخضراء، وتوضح فارقاً كبيراً بينها وبين المبانى الأسمنتية، سواء فيما يتعلق بنسبة ثانى أكسيد الكربون فى كل منها، أو ما يسمى بـ«الذرات الصغيرة» للتلوث فى الهواء، التى لا تُرى بالعين المجردة وتتراوح قياساتها بين 2.5 و10 مايكرون، والمسئولة عن الإصابة بالكثير من الأمراض.

وباستخدام جهاز اشتراه حديثاً من ألمانيا، ويعد من أحد أجهزة قياس نسب التلوث هناك، أخذ «فهمى» يأخذ قراءات من «منزل الثلاث أخوات» عن نسب التلوث، كانت نسبة ثانى أكسيد الكربون بالمنزل، بالرغم من عدم فتح ملقف الهواء، 532 بى بى إم، فيما كانت نسبة الجزيئات الصغيرة الأقل من 2.5 مايكرون 27.9، الجزيئات الصغيرة الأقل من 10 مايكرون 43.9.

وجدير بالذكر هنا، أن مُعد التحقيق استخدم نفس الجهاز لاحقاً لأخذ قراءات من أحد المبانى الأسمنتية، الواقعة بمنطقة حدائق القبة، حيث ارتفعت نسبة ثانى أكسيد الكربون إلى 844 بى بى إم، بفارق 312 درجة، فيما سجلت الجزيئات الصغيرة الأقل من 2.5 مايكرون نسبة 29.1، والجزيئات الأقل من 10 مايكرون نسبة 42.1، وهى النسب التى ترتفع أكثر بالطبع فى مناطق وظروف سكنية أسوأ، بحسب فهمى، إلى الدرجة التى وصلت ذات مرة فى قاعة محاضرات بمبنى تعليمى حديث إلى 1000 بى بى إم.

ويشير «فهمى» هنا إلى أنه فى أمريكا والدول المتقدمة، لا بد ألا تتعدى نسب التلوث فى أى مبنى يعيش أو يعمل أو يدرس به الإنسان نسباً معينة، حتى إنه فى مدارس أمريكا يوجد مثيل لمثل تلك الأجهزة فى فصول المدارس، وإذا تعدى انبعاث ثانى أكسيد كربون داخل الفصل مثلاً نسبة معينة ينطلق جرس إنذار، ويتم استدعاء المهندس ويطالبونه بأن يصل معدل ثانى أكسيد الكربون للمعدل المفروض طبقاً لمعايير وزارة الإسكان، لإدراكهم أن ارتفاع نسبة ثانى أكسيد الكربون تؤثر على «نمو خلايا الإنسان ودرجة تركيزه».

لا يعتبر مصمم «منزل الثلاث أخوات» أن هذه المعايير والاشتراطات نوع من «الرفاهية أو الدلع»، كما قد يتخيل البعض، مشيراً إلى أن نسب التلوث التى ترتفع فى المبانى الأسمنتية، وبسببها، تؤثر على التركيز والنشاط والصحة العامة عموماً وصولاً إلى التسبب فى أمراض خطيرة وقاتلة بما لا يدع مجالاً للشك، و«الإنسان مش مكتوب عليه إنه يعيش طول عمره عيان وبيكح ومش عارف يتنفس وعنده اكتئاب»، حسب تعبيره.

والحفاظ على صحة المصريين هنا «مهمة لكى نستطيع أن نكون مجتمعاً منتجاً ونتقدم بالتالى، هذا فضلاً عن توفير الميزانية الضخمة التى يتم إنفاقها على العلاج والصحة، وتوفيرها لبنود أخرى تحتاج الإنفاق عليها مثل الإنفاق على التعليم أو رعاية كبار السن وذوى الاحتياجات الخاصة».

ويبقى جانب آخر يستدعى الانتباه فى منزل الثلاث أخوات يتعلق أيضاً بالحفاظ على البيئة والصحة، وهو ما يعرفه المختصون فى العمارة والبيئة، بالقدرة على «إعادة التدوير» أو الـ recycling، حيث إن المواد الطبيعية المستخدمة فى بناء المنزل، يسهل دمجها فى الطبيعة مرة أخرى، بما لا يؤدى لتلوثها وتضرر الصحة العامة للمصريين، مثلما تؤدى المبانى الأسمنتية ومواد البناء المستخدمة بها بعد هدمها.

هذا الوعى بالاشتراطات الصحية الواجب توافرها فى المنازل الحديثة ومواد البناء التى يجب أن تُستخدم فيها، أصبح هو السائد الآن فى أوروبا، بحسب «فهمى»، التى بدأت تتخلى الآن عن العمارة الأسمنتية وتتجه للعمارة البيئية الخضراء.

غير أن هذا تحديداً، وفقاً للمهندس المعمارى، هو ما خلق لدول العالم النامية مشكلة أخرى، نتجت عن الشركات التى كانت تعمل فى مواد البناء والبويات «ومنها بويات استاتيكية ومشعة»، والتى اتضح أنها ملوثة للبيئة ولا توفر بيئة صحية، حيث أصبحت هذه الشركات تتجه بمنتجاتها التى أصبحت مرفوضة أوروبياً وغربياً إلى أسواق الدول النامية، ومن بينها مصر، بحثاً عن أسواق وأرباح.


مواضيع متعلقة