اسألوا أهل الذكر: أين «الكتاب والميزان» اللذان أنزلهما الله مع الرسل؟

ما هو السر وراء اتخاذ المتشددين والسلفيين «ابن تيمية» إماماً لهم؟ لو كنا فى عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) لسألناه.. وأعتقد أن الإجابة ستكون بمثل تلك الحيرة لتحقيق مراد الله تعالى من الابتلاء والفتنة كلام المفسر فى كتاب الله لا يعدو أن يكون «وجهة نظر بشرية» مقنعة لصاحبها والقناعة ليست ملزمة إلى الأبد قد اتجه المفسرون فى أكثر مناهجهم إلى أن النص إذا استحال تفسيره على الحقيقة فإنه يُحمل على أحد المعانى المجازية القريبة من الحقيقة. ولذلك فإنهم قد اختلفوا فى تحديد المعنى المجازى من إنزال «الكتاب والميزان» ومناسبة ذكر «الحديد» على اتجاهين فى الجملة سيظل الناس، كل الناس وحتى المشايخ الموصوفون بعلماء المسلمين أو حتى كبارهم، عاجزين أمام كتاب الله أن يستوعبوه فهماً، أو أن يحيطوا به علماً. ومن زعم الفهم أو العلم ببعض معانيه فإنه لا يلبث إن استغرق فى القراءة لغيره والبحث فى عمق ما وصل إليه من معانٍ أن يرجع عنها أو أن يطورها. ولهذه الحقيقة دلالات مهمة منها: (1) أن القرآن الكريم بوصفه «كلام الله» سيظل معجزاً كالحقيقة الإلهية التى تدرك الأبصار وهى لا تدركها؛ كما قال تعالى: «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (الأنعام: 103). ولعل السر فى ذلك يرجع إلى وحدانية الله فى ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، ولا يمكن فصل ذاته عن صفاته أو عن أسمائه أو عن أفعاله كما نفعل فى ذواتنا البشرية، فهو كما قال عن نفسه: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» (الشورى: 11)، وكما أمرنا أن نقول عنه: «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ » (الإخلاص: 1). (2) أن كلام المفسر أو الفقيه فى كتاب الله لا يعدو أن يكون «وجهة نظر بشرية» مقنعة لصاحبها حتى ينتقل إلى «وجهة نظر أخرى أعمق من السابقة»، فليست قناعته الأولى ملزمة له إلى الأبد، بل يجب عليه كلما تكشفت له معان جديدة وكانت مقنعة له أن يتحول إليها، وإلا كان معانداً لنفسه وعدواً لعقله وظالماً لقلبه كما قال تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا» (الكهف: 57)، وقال سبحانه: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (الأعراف: 179). (3) ليس بالضرورة أن تكون وجهة نظر المفسر أو الفقيه مقنعة لغيره حتى ولو زعم استناده إلى منهج علمى؛ لأن هذا المنهج من وضع البشر أيضاً، وقد تطور على مدار السنين ولا يزال يتطور بتراكم المعرفة. هذا بالإضافة إلى أن الأوساط العلمية المتخصصة قد عرفت عدة مناهج للتفسير والتأويل، ولم تتفق على منهج واحد كشأن النتاج البشرى الذى قال الله عنه: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ» (هود: 118). (4) إذا صح لكل من يثق فى نفسه أن يمارس التفسير أو الفقه فى كتاب الله بوصفه خطاباً للبشرية وليس خطاباً لنخبة أو صفوة معينة؛ لأن الله تعالى رب الناس كل الناس، وأرسل رسوله بكتابه لهم جميعاً كما قال سبحانه: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا» (الأعراف: 158). إذا صح ذلك فإن النتيجة الطبيعية التى تستحق التأكيد هى أن كل إنسان بسيط غير متخصص له السيادة فى اختيار أى وجهة نظر من آراء المفسرين والفقهاء المتخصصين بحسب اطمئنان قلبه وراحة نفسه؛ لعدم الوصاية الدينية فى قوله تعالى: «وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ» (الإسراء: 13). ولأن المفسرين والفقهاء مارسوا السيادة استقلالاً، فكل واحد منهم كان سيداً فى بحثه وقناعته، ولا يملك المساس بسيادة أستاذه الذى سبقه أو زميله الذى يزامنه أو تلميذه الذى يلاحقه، فكيف يزعم أحد المفسرين أو أحد الفقهاء حقه فى فرض وجهة نظره وجعلها صاحبة السيادة على عوام الناس متخطياً بذلك حقوق سائر المفسرين والفقهاء فى مثل تلك الزعامة. إن الإنصاف يقتضى أن نخلى سبيل العوام من الأسر الفقهى أو الدينى الذى يمارسه بعض الأوصياء؛ حتى يمارسوا إنسانيتهم ويتحملوا مسئوليتهم كما أن الواجب الشرعى يحتم على الفقهاء إعلان حق العوام فى الاختيار الفقهى دون وصاية؛ تنفيذاً لما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن وابصة بن معبد، وكان من بسطاء الصحابة حتى إنهم منعوه من الاقتراب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحظوا هم بالقرب منه، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يحاول تخطى الناس ويقول: دعونى أدنو منه فإنه من أحب الناس إلىّ أن أدنو منه، ناداه فقال: «ادن يا وابصة»، ثم قال له: «يا وابصة أخبرك ما جئت تسالنى عنه أو تسألنى»؟ فقال وابصة: فأخبرنى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جئت تسألنى عن البر والإثم». فقال وابصة: نعم. فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه الثلاثة فجعل ينكت بها فى صدرى ويقول: «يا وابصة استفت نفسك. البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس. والإثم ما حاك فى القلب وتردد فى الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك». (5) إذا ثبتت السيادة لكل البشر فى فهم كتاب الله استنباطاً من أهل الاجتهاد، واختياراً من غيرهم. وإذا ثبت بقاء تلك السيادة للمجتهدين فى تطوير اجتهادهم وتعديله كلما وجدوا لذلك مقتضى منهجى، كما تبقى السيادة للعوام فى التحول من اختيار قول مجتهد إلى اختيار قول مجتهد آخر كلما وجدوا لذلك مقتضى اطمئنانياً فإن أحداً من الفقهاء أو المفسرين لا يملك فرض رأيه على الناس مهما وصف نفسه، برئيس العلماء أو شيخ الإسلام أو نحو ذلك أو أرفع منه. فرأيه لن يخرج عن القاعدة التى قالها الإمام الشافعى عن نفسه: «قولى صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرى خطأ يحتمل الصواب». وهذه الوظائف الدينية المستحدثة عند المسلمين إنما هى وظائف إدارية أو تنظيمية لترتيب الأعمال وليست وظائف دينية يستقوى بها صاحبها على عقول أو قلوب الآخرين. أما الالتزام الواجب الوفاء به فهو عقود الناس وعهودهم القائمة على سيادتهم جميعاً بأصوات متساوية. المجتهدون والعوام سواء بالمعيار المذكور؛ لأنهم جميعاً مكرمون كما قال تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ» (الإسراء: 70). وهذا يتضح فى عقود الناس الخاصة كالبيع وعقودهم العامة كتنصيب الحاكم بالبيعة قديماً أو بالانتخابات حديثاً، فكل هذه العقود متكافئة الأطراف لا يستقوى أحد منهم على صاحبه بوصفه فقيهاً أو مفسراً أو عضواً بهيئة علمية أو رئيساً لها. وبعد، فقد أطلت فى هذا التأصيل السابق لخطورة ما ورد فى تفسير قوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ» (الحديد: 25). ولك أيها الإنسان أن تسأل ما هى البينات، وأين الكتاب والميزان المنزلين مع الرسل حتى نقيم القسط، وما مناسبة ذكر الحديد فى السياق؟ لو كنا فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لسألناه، وأعتقد أن الإجابة ستكون بمثل تلك الحيرة ليتحقق مراد الله تعالى فى الابتلاء أو الفتنة فى اختيار المعانى، ويظهر معدن المفسر أو الفقيه فى نظرته للآخرين. فإن كان يراهم أسياداً كسيادته فسيوجه المعانى لتكريم كل الناس، وإن كان يراهم دونه فسيوجه المعانى لتمكينه منهم. وإذا كان النص المحكم قد قطع بأن الله تعالى قد أرسل الرسل بالبينات وأنزل معهم «الكتاب والميزان» فإن أحداً منا لم ير ولم يسمع عن أحد أنه رأى هذين المنزلين إذا فسرنا «البينات» بالآيات الواضحات فى «التوراة والإنجيل والقرآن». وقد اتجه المفسرون فى أكثر مناهجهم إلى أن النص إذا استحال تفسيره على الحقيقة فإنه يُحمل على أحد المعانى المجازية القريبة من الحقيقة. ولذلك فإنهم قد اختلفوا فى تحديد المعنى المجازى من إنزال «الكتاب والميزان» ومناسبة ذكر «الحديد» على اتجاهين فى الجملة. الاتجاه الأول: ذهب إليه أكثر المفسرين، وينطلق من سيادة الإنسان بالتفسير الموضوعى. حيث يرى أن المقصود من «الكتاب والميزان» العدل، وذكر «الحديد» جاء إشارة لأدوات إعمار الأرض الذى يحتاج إلى إقامة العدل. ويمكن التوسع بأن «الكتاب» هو العقد والعهد المبرَم بين الناس، و«الميزان» هو الوفاء بالعقود والعهود الذى نزل الأمر به فى قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (المائدة: 1)، وقوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا» (الإسراء: 34)، وما أخرجه البخارى تعليقاً، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون عند شروطهم». الاتجاه الثانى: ذهب إليه ابن تيمية وكرره فى أكثر كتبه، وينطلق ابن تيمية من قصر السيادة على النخبة بالتفسير الشخصانى. حيث يرى أن المقصود من «الكتاب» العلماء الشرعيين (المشايخ)، والمقصود من «الميزان» الوزراء والشرطة، والمقصود من «الحديد» الأمراء والأجناد، كما أن المقصود من إقامة القسط إلزام الناس بحقوق الله (الدين) وحقوق الآدميين (الحياتية). والأعجب أنه يستقوى بحديث لم يذكره سواه، ولم يرد فى أى من كتب السنة أو الحديث. ولخطورة هذا الاتجاه فإنى أذكر ما كتبه ابن تيمية نصاً حنى ندرك أصل اعوجاج فكر الحركات التى تصف نفسها بالإسلامية فى عصرنا. يقول ابن تيمية فى كتابه «السياسة الشرعية»، وكتابه «مجموع الفتاوى» ما نصه: «فمن عدل عن الكتاب قُوِّم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف. وقد روى عن جابر بن عبدالله -رضى الله عنهما- قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا -يعنى السيف- من عدل عن هذا؛ يعنى المصحف». وقال فى «مجموع الفتاوى»: «ذكر -تعالى- أنه أنزل الحديد الذى به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدى والسيف ينصر، وكفى بربك هادياً ونصيراً. ولهذا كان قوام الناس بأهل الكتاب وأهل الحديد». وقال فى «الفتاوى الكبرى»، و«مجموع الفتاوى»: «فالكتاب به يقوم العلم والدين. والميزان به تقوم الحقوق فى العقود المالية والقبوض. والحديد به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين. ولهذا كان فى الأزمان المتأخرة الكتاب للعلماء والعباد. والميزان للوزراء والكتاب وأهل الديوان. والحديد للأمراء والأجناد». والمثير للدهشة أن السلفيين المعاصرين تخطوا أئمة المذاهب المشهورة واختاروا ابن تيمية المتوفى 728هـ ليكون إمامهم بزعم نصرته للسنة، وما ذكره من حديث جابر فى أخطر مسائل الشريعة لا تصح نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان الحاكم قد أخرج فى «مستدركه» قريباً من معناه عن محمد بن مسلمة الصحابى من أفعاله دون نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد أخرج الحاكم وصححه عن جابر بن عبدالله قال: بعثنى عثمان -رضى الله عنه- فى خمسين فارساً إلى ذى خشب وأميرنا محمد بن مسلمة الأنصارى. فجاء رجل فى عنقه مصحف وفى يده سيف وعيناه تذرفان فقال: إن هذا يأمرنا أن نضرب بهذا على ما فى هذا. فقال له محمد بن مسلمة: اجلس فقد ضربنا بهذا على ما فى هذا قبل أن تولد، فلم يزل يكلمه حتى رجع. أعتقد بعد ذكر هذه النصوص عن ابن تيمية التى تجعل من العلماء (المشايخ) أوصياء على المجتمع، ومن الأمراء أدوات قهر بالسيف نكتشف سر تعظيم السلفيين ونحوهم له مع استدلاله بحديث موضوع. ويبقى حق الإنسان فى سؤال كل من يزعم العلم الشرعى أين «الكتاب والميزان» اللذان أنزلهما الله مع الرسل ليقوم الناس بالقسط. وإذا لم يكن هذا الإنزال حقيقياً فلماذا يتجه أصحاب الحركات الموصوفة بالإسلامية إلى التفسير المجازى الذى يستعبد العوام مع إمكانهم الأخذ بالمجاز الذى يحفظ لكل بنى آدم كرامته وسيادته.