الإخوان المسلمون والخنزير الأحمر

شهد القرن الماضى حالة من الصراع والتوتر والتنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى وحلفائهما منذ فترة منتصف الأربعينات حتى أوائل التسعينات، فيما يسمى بالحرب الباردة، حيث أدرك الأمريكيون أن إرضاء السوفيت المطلق يضر بالمصالح الأمريكية، والدخول معهم فى صراع مفتوح هو أيضاً أمر قد لا تحمد عقباه، والنتيجة هى أنه يجب أن نخلق مساراً ثالثاً لا هو بالسلم ولا هو بالحرب التقليدية.. مساراً يعتمد على الاقتصاد والتغلغل داخل الحركة الشيوعية العالمية وإعطاء صور إيجابية للديمقراطيات الرأسمالية.

وهنا دعا جورج كينان (المنظر الأمريكى للحرب الباردة) إلى التغلغل داخل الحركة الشيوعية، معتبراً أن المشكلة ليست مع الفكر الشيوعى بقدر ما هى مع السوفيت، كما تبنى الطرح الذى يقول إن العقيدة الاشتراكية يمكن التأثير عليها باستقطاب شخصيات فاعلة ومدارس تكون أقرب للغرب وأبعد عن الشيوعية العدائية الراديكالية، بهدف الوقيعة بين الكرملين والحركات الإصلاحية المتعددة.

وهنا قامت الإدارة الأمريكية فى عهد الرئيس دوايت أيزنهاور بوضع استراتيجية أخرى لمواجهة المد الشيوعى، وتجسدت تلك الاستراتيجية من خلال الاعتماد على الإسلام السياسى؛ وبالأخص الإخوان المسلمين؛ حيث يمكن تعبئتهم بشكل مناهض للشيوعية، وهنا برز سعيد رمضان زوج ابنة حسن البنا كمسئول سياسى وخارجى لجماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وكان لقاء «رمضان» مع الرئيس «أيزنهاور»، فى البيت الأبيض نقطة انطلاقة لرمضان كمسئول عسكرى أيديولوجى للجماعة، حيث كانت الولايات المتحدة تنظر لرمضان على أنه حليف محتمل لها بحربها ضد الشيوعية. وكان مؤتمر برنستون، ولقاء أيزنهاور وسعيد رمضان بداية لحقبة من الزواج العرفى بين الولايات المتحدة والإسلام السياسى.

وفى ذلك الوقت صدر كتابان مريبان فى القاهرة، قيل إنهما صادران من السفارة السوفيتية، ليتبين فيما بعد أن المخابرات الأمريكية هى التى أصدرتهما، وكان الأول بعنوان «محمد لم يوجد قط»، والثانى، بعنوان «أضرار الصوم فى رمضان»، وفى هذه الحرب الدعائية أطلق الأمريكيون ما سمى باسم برنامج «الخنزير الأحمر»، حيث تظهر شخصية سينمائية كرتونية فى صورة خنزير يرتدى شعار «النجم الأحمر الشيوعى»، ويحاول افتراس رجل اسمه «الدين»، ليلقى الخنزير مصرعه فى النهاية على يد «الدين».

كما جربت المخابرات الأمريكية وسائل خلاقة إبداعية، رغم أنها لم تكتمل للتواصل مع الحركة الإسلامية. بعض تلك الوسائل وردت فى كتاب «لعبة الأمم» الذى كتبه «مايلز كوبلاند» عميل المخابرات الأمريكية الذى خدم فى الخمسينات كضابط اتصال مع «عبدالناصر»، وقضى سنوات عديدة فى أروقة السياسة العربية. وقد أشار «كوبلاند» إلى أنه فى نفس الفترة التى تم فيها إطلاق برنامج الخنزير الأحمر، فإن الـ«سى آى إيه» أطلق مشروع بيلى جراهام المسلم وفى عام 1951 استعار دين أتشيسون وزير الخارجية كيرميت روزفلت من المخابرات حديثة النشأة ليرأس لجنة عالية المستوى من المتخصصين بعضهم من الخارجية والبعض من وزارة الدفاع والبعض مستشارون من الشركات والجامعات (وليس فيهم من هو من المخابرات إلا روزفلت ذاته) وكان هدف اللجنة هو دراسة العالم العربى كما قال «كوبلاند» وتم إطلاق عملية بيلى جراهام المسلم التى تهدف إلى تعبئة المشاعر الإسلامية، خلال اجتماع اللجنة.

وقال «كوبلاند» إن أحدهم روّج لفكرة تعبئة المشاعر الدينية فى حركة كبيرة باسم «بيلى جراهام المسلم» ضد الشيوعية، وذهب إلى حد اختيار رجل عراقى يتمتع بنوع من القدسية أو التبجيل للقيام بجولة فى الدول العربية. ولم يتم الكشف عن شخصية الرجل العراقى. لكن «كوبلاند» اعتبر العملية بالكامل تجربة للتعلم. وقال إن المشروع لم يضر وعلمت إدارته اللجنة المعنية الكثير من الأفكار الخاطئة فى تخطيطهم الأصلى، وهى دروس استفادوا منها عندما وضع مستشارو الملك فيصل أمام مشروع مماثل على أن يكون فيصل ذاته الرجل المبارك.

ومنذ ذلك الحين بدأ المخططون البريطانيون والأمريكيون فى التفكير فى بناء تحالفات ونظام للدفاع ضد الاتحاد السوفيتى عبر حدوده الجنوبية، أقحموا الإسلام فى الموضوع، واعتبروا رابطة الدول العربية التى قامت بإيعاز بريطانى مثلاً ضعيفة لأنها لم تشتمل على تركيا وإيران وباكستان، وعندئذ طرح اقتراح لتحويل جامعة الدول العربية إلى رابطة لعالم إسلامى لتشمل على الأقل إحدى الدول الشمالية وفشلت الفكرة وركزت السياسات التالية بدرجة أقل على الإسلام وبشكل أكبر على النفوذ الأنجلو أمريكى. وخلال فترة حكم ترومان وأيزنهاور استمرت الولايات المتحدة فى تنفيذ سياسات والقيام بجهود لتعبئة العالم الإسلامى فى الحرب الباردة واستغلال الإسلام كسلاح ضد النفوذ السوفيتى.

وهنا يتضح لنا كيف بنت الولايات المتحدة علاقات مع الإخوان المسلمين كحليف لها، خلال الحرب الباردة فى صراعها مع الشيوعية بالأساس، ولتقويض فكرة القومية العربية والناصرية التى جمعت بين الاثنتين.