قانون التصالح فى مخالفات البناء..!

على ما يبدو أن البرلمان يمارس سلطة التشريع بمعزل تام عن واقع الحياة فى مصر تماماً، ويؤكد هذه المقولة، وفق ما أرى، إقدام البرلمان مؤخراً على إقرار قانون يسمح بالتصالح فى مخالفات البناء نظير دفع غرامة، ووضع القانون قيمة مالية لكل مخالفة، تختلف من محافظة لأخرى.

وأجاز القانون فى مادته الأولى التصالح فى الأعمال التى ارتكبت بالمخالفة لأحكام القوانين المنظمة للبناء التى يثبت القيام بها قبل العمل بأحكام هذا القانون فيما عدا ثمانى حالات لا يجوز التصالح فيها وهى: الأعمال التى تخل بالسلامة الإنشائية للبناء، والتعدى على خطوط التنظيم المعتمدة المقررة قانوناً، والمخالفات الخاصة بالمبانى والمنشآت ذات الطراز المعمارى المتميز، وتجاوز قيود الارتفاع المقررة من سلطة الطيران المدنى، أو تجاوز متطلبات شئون الدفاع عن الدولة، والبناء على الأراضى المملوكة للدولة، والبناء على الأراضى الخاضعة لقانون حماية الآثار وحماية نهر النيل، وتغيير الاستخدام للمناطق التى صدر لها مخططات تفصيلية معتمدة من الجهة الإدارية، والبناء خارج الأحوزة العمرانية.

الشاهد أن القانون فى شكله العام يستهدف الصالح العام وهو مقصد من البرلمان لا يمكن التشكيك فيه، ولا يمكن لعاقل أن يرفض أية محاولة لإزالة كل المخالفات والانتهاكات التى وقعت بحق الدولة فى مختلف المجالات عامة وليس فى مجال البناء فحسب، ولكن النظر بتأنٍ وتعمق لتصور كيفية وضع مواد هذا القانون موضع التنفيذ، يكشف أن البرلمان وضع تشريعاً يتعذر، بل يستحيل، تنفيذ أى من مواده، خاصة فى ظل الترهل والانحلال الراسخ فى أركان منظومة الحكم المحلى منذ عقود عديدة!

وأخاطب السادة نواب البرلمان، سواء المشاركون فى التقدم بمشروع القانون أو الذين تفاعلوا وناقشوا وأضافوا وعدَّلوا ووافقوا أو تحفظوا أو رفضوا كل أو بعض مواد القانون، وأقول إنكم وضعتم نصوصاً محددة وتوصيفات كثيرة لمخالفات البناء وتواريخ وقوعها وأماكن وجودها، ووضعتم فوارق بين المخالفات التى لا يجوز التصالح فيها والتى يمتنع فيها إتمام التصالح، وأسأل حضراتكم: من سيتولى تنفيذ هذه الحزمة من المواد القانونية وملحقاتها وتوصيفاتها، ألا تعلمون حضراتكم أن منظومة الحكم المحلى فى مختلف المحافظات فاسدة أو فاقدة الفاعلية؟!.. ألا تدركون أن الضمانة الأساسية لتنفيذ أى قانون، خصوصاً إذا كان هذا القانون من القوانين المعقدة والمتداخلة كالقانون الذى نتحدث عنه، ألا تدركون أن هذه الضمانة هى ضرورة توافر كيان أو جهاز إدارى مكون من أفراد مؤهلين مدركين لمهمتهم، لديهم كفاءة مهنية وحصانة، نفسية وقانونية، ضد الفساد والإفساد؟!

وأكرر وأزيد فى السؤال.. مَن ذلك الموظف بأى إدارة من إدارات الحكم المحلى الذى لديه القدرة على فهم نصوص القانون الجديد للتصالح فى مخالفات البناء، فهماً صحيحاً، ومن منهم لديه المعلومات الموثقة والاستيعاب الكامل للفوارق التى وضعها القانون للمخالفات التى يجوز فيها التصالح والتى لا يجوز فيها التصالح؟!

يا سادة.. إننى أخشى أن يكون إقرار القانون الجديد للتصالح فى مخالفات البناء، بمثابة باب جديد للاسترزاق لضعاف النفوس، وما أكثرهم فى منظومة الحكم المحلى المتهالكة!

يا نواب الشعب الكرام.. أولى بمجلسكم الموقر أن يؤجل مهمة إنجاز التشريعات الحيوية التى يحتاجها تحقيق العدل والانصباط فى المجتمع، وأن يبدأ بالسعى مع الحكومة لتحقيق إصلاح حقيقى لبنية منظومة الحكم المحلى، والتى أرى أنها المهمة الأصعب والأكثر احتياجاً للدولة وشعبها.

لقد علمونا فى كليات الحقوق أن التشريعات تصدر ليتم تطبيقها لا ليتم وضعها فى الأدراج لصعوبة أو استحالة تنفيذها أو تطبيقها!