مستعمرة الجذام

عادل نعمان

عادل نعمان

كاتب صحفي

ألا يكفيهم ما هم فيه من هجر وعزل عن الدنيا، وبعد عن حضن الأهل والأحبة، حتى نباعد بينهم وبين الغذاء والعلاج والدواء ودفء الشتاء، ونحرمهم الأمل فى الشفاء، والرغبة فى الحياة؟ ألا من نظرة عطف ورحمة تخفف عنهم وحشة الحياة وقسوة المرض وألم الليالى؟ هؤلاء البؤساء الذين ضاقت عليهم شوارعنا وبيوتنا، المحرومون خارج المستعمرة وداخلها من الحياة، ينتظرون الموت بشغف وحنين، يبيتون ليلهم على أمل الموعد، ويباركون خطواته إذا همّ باللقاء، ألا يكفيهم ما ضاع من قرب الأحبة مخافة العدوى والمرض حتى يفقدوا تعاطف الناس والمجتمع؟ ألا يكفيهم ما سرقه المرض اللعين من أطرافهم حتى يخسروا تواصلهم مع المسئولين فى بلادى؟ تشكو إدارة المستشفى من نقص الدواء والعلاج، فهل يُعقل أن تضن قلوب المسئولين على من خفت صوته وانكسرت إرادته ووهنت عزيمته وعزله المجتمع عن طريقه، وأصبح يدارى علته عن الناس مخافة النفور والاجتناب والإعراض والهجر، حتى تلاشى صوته وانقطع عن المطالبة بحقه فى الحياة واكتفى بالأنين والابتعاد والاعتزال؟ هل يُعقل أن نترك لنا أشباحاً يعيشون ويختبئون بيننا بلا دواء أو علاج؟ هل يُعقل أن تكون احتياجات المستعمرة من القطن ستين كيلوجراماً يومياً، وتتعطف وزارة الصحة عليهم بعشرة فقط؟ وهو أهم الضرورات للغيار وتنظيف وتطهير الجروح لهؤلاء المظلومين، الفرق شاسع، والمسافة طويلة بين احتياجات هؤلاء البؤساء وبين ما تجود وتتعطف به عليهم وزارة الصحة، وهم أولى الناس بالرعاية والعناية، فقد ضاع منهم كل شىء؛ الأهل والضنى والناس والعمل، وتاه منهم الأمل، وفقدوا القدرة على العمل، بل وفقدوا الرغبة فى الشفاء، وأصبح الواحد منهم يبيت ليلته على أمل الموت والفناء، فهو الأرحم والأسلم، والعلاج من كل داء، والدواء والراحة من كل علة، فهم أحياء بلا أمل وأموات بلا حساب.

مستعمرة الجذام بأبى زعبل بالقليوبية ومثيلتها بالإسكندرية، بين أسوارهما وغرفهما وأسرّتهما المتهالكة، يعيش أناس مثلنا تماماً، لهم مشاعر وأحاسيس مثلنا، إلا أنها ذبلت وضمرت من كثرة الأوجاع والأنين، علاجهم ليس كعلاجنا، ولا يأكلون ولا يشربون كما نأكل ونشرب، يعانون فى كل شىء، فى علاجهم فهم لا يعالجون فلا يشفون، وفى أكلهم وشرابهم فهم جوعى لا يشبعون، وفى غطائهم فهم لا يستدفئون من برودة الشتاء، ولا يعيشون ولا يموتون، وهم مرضى ككل المرضى، لهم الحق فى العلاج كأى مريض، والراحة كبقية خلق الله، وليس من العدل والرحمة أن يعيشوا دون دواء يكفيهم، أو أغطية تقيهم برودة الجو وعنف الشتاء القارص، أو غذاء يسدون به رمقهم، ولا يجدون من سبيل إلا العمل خارج أسوار المستعمرة أو خارجها بقروش قليلة تساعدهم على مشقة الحياة، وهم فى حاجة إلى الراحة وعدم الاختلاط، أو يستنجدون بأصحاب القلوب الرحيمة أن يرفعوا عنهم البلاء، فيجود عليهم من يجود، ويعطف عليهم من يعطف، وينصرف عنهم من ينصرف، إلا أن العطف والجود ليس بالكرم الذى يسد حاجة هؤلاء، وعلى قوته ورحمته لا يصمد أمام هذا الغول وهذا المرض الذى لا يرحم، وهناك دولة مهمتها الرئيسية هذا المريض العاجز، ولا يمكن أن ينتظر المسئول تعليمات حتى يسارع ويعدو ويهرول لحل المشكلة فى ساعات معدودة، وهى فى الأصل على مكتبه وبين دفاتره ومسئولياته، وهى مهمته الرئيسية التى أقسم على القيام بها، ولم يكن فى القَسم أن يسارع بحل المشكلة بمجرد صدور تعليمات ولى الأمر، وأنا على يقين لو وصلته لأصدر تعليماته فوراً.

ليس هناك من شك أن الدولة ووزارة الصحة تسرع الخطى وتهرول لتعويض ما فات من صحة المواطنين، وتحاول اللحاق بكل ما تسرّب من بين أيديها فى الماضى، من تسيب وإهمال وفوضى وفساد وإهدار للمال العام، والأدلة قائمة بيننا لا ينكرها جاحد، لكن الأهم عندى ألا تخطئ عين المسئول، فترى ما يراه الرئيس ولا ترى ما يراه الناس، وتصيب فى مكان وتخطئ فى الأهم والأولى بالرعاية والعناية، وتسارع فى هوى من كان صوته مسموعاً وقوياً وذا صلة ونفوذ، وتصم أذنيها عن همس الضعفاء وأنين البسطاء ومن لا سند لهم ولا معين، فكلنا سواء، من كان قادراً على الشكوى، ومن حبسها فى نفسه مخافة الإعلان عن مرضه، أو من كان صوته مسموعاً، ومن كان صوته حشرجة الموت، ومن كان موصولاً، ومن كان مقطوعاً، أو الكثيرون من المرضى، أو القليلون منهم، وهؤلاء قلة عددية لا تزيد على ألوف الأيدى الواحدة، نعطف ونحنو عليهم، ونقدم لهم الدواء والرعاية والكساء والعيش الكريم، ونرفع عن كاهلهم عبء الحياة ومشقتها، فهم أولادنا وأهلنا، وما يدريك فربما يوماً تقع فى محنة ويخفت صوتك بعد أن كان قوياً مجلجلاً ولا تجد من يسمعك ولا تجد لك من مجيب، ارحموا نزلاء مستعمرة الجذام يرحمكم من فى السماء، فهى مستشفى وليست مستعمرة.