سامى عبدالراضى يكتب: حكاية الملازم مصطفى رفعت.. كلمة السر فى عيد الشرطة

سامى عبدالراضى يكتب: حكاية الملازم مصطفى رفعت.. كلمة السر فى عيد الشرطة
- أكاديمية الشرطة
- التحية العسكرية
- الرئيس عبدالفتاح السيسى
- الرئيس عبدالناصر
- الشرطة المصرية
- مصطفى رفعت
- عيد الشرطة
- السيسي
- أكاديمية الشرطة
- التحية العسكرية
- الرئيس عبدالفتاح السيسى
- الرئيس عبدالناصر
- الشرطة المصرية
- مصطفى رفعت
- عيد الشرطة
- السيسي
«لقد كان عملاً قذراً، ما أقدمنا عليه لندخل هذا المكان».. هذه الكلمات قالها القائد الإنجليزى «ماتيوس» لضباط الشرطة فى الإسماعيلية عام ٥٢، عندما شاهد جثث وأشلاء الضباط والعساكر تُغطى أرجاء مبنى محافظة الإسماعيلية، توقَّف القائد عن الكلام وأعطى التحية لهؤلاء البواسل، وترك الأحياء منهم يخرجون بـ«كلمة شرف» منه، كلمة شرف عقدها مع الملازم أول مصطفى رفعت، قائد قوات الشرطة فى ذلك الوقت، ولم تكن حرباً بين بندقية متواضعة ودبابة مدمّرة، لكنها كانت حرباً بين العزيمة والإرادة والقوة والتحدى والكرامة من ناحية، وبين رغبة محتل غاشم فى الوصول إلى هدفه من ناحية أخرى، ففى مشهد تاريخى لهم وللمقاومة المصرية، وقف رجال الشرطة يستقبلون الرصاص وقذائف المدافع فى «٢٥ يناير»، ليكون ذلك عيدَهم.. عيداً وضعوا بدايته بدمائهم.
الملازم مصطفى رفعت هو هذا الشخص الذى كرَّم الرئيس عبدالفتاح السيسى أسرته صباح اليوم، فى الاحتفال بالذكرى 67 لعيد الشرطة المصرية.. الرئيس عبدالفتاح السيسى ترك مقعده، فى حفل عيد الشرطة، وتوجَّه لتحية أسرة البطل اللواء مصطفى رفعت، أحد أبطال معركة الإسماعيلية فى 25 يناير 1952، ووجَّه التحية لأرملة اللواء الراحل، السيدة نائلة عبدالله، وابنه وابنته، خلال حضورهم الحفل بأكاديمية الشرطة.
فى يناير 2007.. التقيتُ اللواء مصطفى رفعت بمنزله فى شارع مراد بالجيزة.. القائد الذى كانت مهمته قيادة قوات الشرطة فى الإسماعيلية.. عمره وقتها «٨٤ سنة»، تحدَّث يومها بثبات وقوة، وكأن ما حدث فقط كان بالأمس.. الرجل اعتقلوه.. بعد المعركة وعزلوه من العمل.. وأعاده الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إلى عمله تكريماً له على العمل البطولى.
{long_qoute_1}
قال لى يومها: كنت أدرس الشرطة الجنائية أو شرطة الجريمة فى إنجلترا عام ٥٢، وكان معى زميلى الفنان صلاح ذو الفقار، وصديقنا صلاح الدسوقى، الذى أصبح فيما بعد محافظاً للقاهرة، عرفنا من خلال الصحف الإنجليزية أن هناك مقاومة شعبية شرسة يقودها شعب القناة ضد الإنجليز، دون تردُّد قلت لزميلَى الدسوقى وذو الفقار: لازم نرجع مصر وننضم للمقاومة، وكتبنا طلباً لمدير كلية الشرطة بالانضمام، ووافق على أن ندرِّب قوات البوليس المصرية بعد حصولنا على فرقة «قتال»، وتوجَّهنا إلى الإسماعيلية، وكنا نوجِّه ضربات كثيرة للإنجليز، وسقط الكثير منهم ما بين قتلى وجرحى، لدرجة أن قائد القوات البريطانية أمر جنوده بألا يسيروا بمفردهم، وقال لجنوده: لا بد أن تسيروا «٤» مع بعض على الأقل، فالجندى الذى كان يتحرك بمفرده يرجع لمعسكره جثةً هامدةً، وأتذكر أننى نفَّذتُ عملية تفجير لأحد مواقع القوات الإنجليزية، وكان معى الفنان صلاح ذو الفقار، وحدثت مطاردة مثيرة بيننا وبين قوات الاحتلال، وانتهت باختفائنا داخل منزل أحد المواطنين، فأثناء سيرنا فوق سطح المنزل وجدنا «تعريشة» من الخشب، أخذتنا وسقطت بجوار أهل المنزل، الذين كانوا يتناولون الطعام، وقال لهم صلاح ذو الفقار: السلام عليكم، وروى لهم التفاصيل، واحتضنونا حتى الصباح، وعاودنا المقاومة.
وأضاف: «يوم ٢٥ يناير 1952 كان يوم جمعة، وجدنا (فرَّاش) بالمحافظة، وهو أحد الفدائيين، يقول لنا: الحقوا.. الإنجليز حاصروا المحافظة.. وفى السادسة صباحاً، توجَّهنا إلى مقر المحافظة، وكان بداخلها ٧٥٠ عسكرياً وضابطاً، وتوجّهت للتفاوض مع القائد الإنجليزى (إكسهام)، الذى كان يتحدث بغطرسة، وطلب منا أن نغادر المكان، ونُنزل العَلم المصرى، لكننى رفضت، وقلت له: على جثتى وزملائى، ولن نغادره أحياء. ودارت الحرب، كنا نحمل بندقيات، الواحدة منها بها ٥ طلقات فقط، بينما يمتلك جنود الاحتلال أسلحة وذخيرة حديثة ودبابات رهيبة، ويومها أحضروا لنا قطاراً وقالوا: اركبوا وغادروا القاهرة، وبدأ الجنود والضباط يتساقطون فى حرب استمرت ٩ ساعات، ورفض القائد أن نعالِج الجرحى أو ننقلهم بالإسعاف لتلقِّى العلاج فى المستشفى، واشتدت ضربات الإنجليز، وحرقوا المحافظة بالكامل، ويومها فقدنا ما بين ٥٠ و٦٠ قتيلاً ومئات الجرحى، ورفضنا أن نستسلم، وساعَدنا الفدائيون يومها بإحضار الذخيرة».
أصعب موقف -كما حكى لى القائد العظيم- كان بعد سقوط الضحايا ما بين قتلى ومصابين، كانت الدماء تنتشر فى كل مكان، هنا تجد ذراعاً وهناك تجد قدماً أو أحشاء، لكن الموقف الأصعب عندما انتهت المفاوضات بينى وبين القائد الإنجليزى على أن أسلِّم له المحافظة، فى تلك اللحظة سقطت دموع العساكر، وقالوا: لن نخرج من هنا، نموت أفضل، لازم نكمل المقاومة، مش مهم مفيش ذخيرة، نقاتلهم بالبنادق والطوب والشوم، حتى نلحق بزملائنا الشهداء. لقد كان الموقف غريباً وعصيباً، وأقنعت العساكر بالأمر، وأننا لن ننجح أن نجرح جندياً واحداً منهم، لكن فى مقدور واحد منهم أن يقتلنا جميعاً، فالذخيرة والأسلحة انتهت وأصبحنا «عُزل».
أتذكر أن «ياور» القائد «ماتيوس» دخل إلى مبنى المحافظة، وعندما شاهد الجثث والمصابين وضع يدَيه فوق عينَيه من المنظر البشع، وقال: «هذا عمل قذر، ما أقدمنا عليه لنحتل هذا المكان»، وجدت الرجل وقائده «ماتيوس» يقف ويؤدى التحية العسكرية لنا وللضحايا، وقال «ماتيوس»: لقد كنتم رجالاً بواسل، قاومتمونا بشراسة وقوة رغم الفارق فى الإمكانات والأسلحة. عدتُ إليه للتفاوض والخروج من المكان، وكان ذلك بالشروط التى وضعتُها رغم الهزيمة، لكن الرجل وافق على كل الشروط تقديراً للدور البطولى الذى بذلناه، وكانت الشروط: أن نخرج من مبنى المحافظة فى طابور طويل، وألا نرفع أيدينا مثل الأسرى، وأن يتعامل معنا بـ«كلمة شرف»، وألا ينزع العَلَم المصرى من أعلى مبنى المحافظة. ووافق الرجل، وتم اقتيادنا إلى المعتقل فى صحراء الإسماعيلية.
وفى المعتقل كانت المعاملة جيدة، على خلفية «كلمة الشرف»، لكن الطعام كان سيئاً.. «قشر» البرتقال وقطعاً صغيرة من البصل والخبز، والتقيت قائد المعسكر، وسألته: هل هذه كلمة الشرف.. الطعام سيئ؟ فردَّ علىَّ بحسرة: هذا الطعام نحضره من قبرص، لأن المصريين رفضوا العمل معنا وغادر الموقع قرابة ٨٠ ألف مصرى، وإذا كنتم تريدون طعاماً اكتبوا طلباً للحكومة المصرية، ولن نعتر.، تذكرت أن ذلك يعود بالنفع على القوات الأجنبية، فقلت له: إن قشر البرتقال رائع ومغذٍّ.
استمر الاعتقال قرابة ٥ أشهر، وعدتُ بعد ذلك إلى القاهرة، وتم فصلى وزملائى من الخدمة، لأننا قاومنا الإنجليز، وعشتُ فى الإسكندرية، وبعد أيام من الثورة حضر إلىَّ صديقى إبراهيم البغدادى، الذى أصبح مديراً للمخابرات فيما بعد، وقال: سمعت بالثورة؟! قلت: لأ.. قال: طيب تعرف جمال عبدالناصر وجمال سالم وصلاح سالم ومحمد نجيب والسادات؟ قلت: لأ.. وأخذنى من يدى إلى العباسية، حيث مقر قيادة المخابرات المصرية، والتقيت «عبدالناصر» الذى أمر بعودتى فوراً إلى عملى، وقال: كان لا بد أن تُكافأ على هذا العمل الرائع، ولا يكون جزاؤك العقاب والفصل من الوظيفة، وكرَّمنى الرئيس عبدالناصر بعد ذلك، وحصلت على وسام الجمهورية.. منذ عام بالضبط، حضر ضابطان إنجليزيان من القوة التى شاركت فى الحرب ضدنا، وأعطاهما الله عمراً طويلاً مثلى، وزار الضابطان مقابر الشهداء فى الإسماعيلية، وقدَّما اعتذاراً لوزارة الداخلية فى «عيد الشرطة».