تركيا من دون نظرية سياسية

لم تمتلك الدولة التركية نظرية سياسية متكاملة فى أىّ وقت.. لا حين تأسست ولا الآن. كانت آخر محاولة لتأسيس نظرية سياسية للدولة هى محاولة الدكتور أحمد داود أوغلو، أستاذ العلاقات الدولية البارز. ألَّف «أوغلو» كتابه الشهير «العمق الاستراتيجى».. الذى قدم رؤيةً ضروريةً حول «تصفير المشاكل».. والوصول بدرجة الاشتباكات الإقليمية والدولية لتركيا إلى مستوى الصفر. كأنَّ «أوغلو» كان يريد ترشيح بلاده لجائزة نوبل للسلام. فقدَّم رؤيةً أخلاقية رفيعة.. فى زمنٍ عاصف.

أصبح الدكتور داود أوغلو وزيراً ثم رئيساً للوزراء.. ولكن «حلم الصفر» لم يتحقق.. بل راحتْ تركيا تذهب من صراعٍ إلى صراع، ومن اشتباكٍ إلى اشتباك. لم يعد المفكِّر هو رئيس الحكومة ولا رئيس الحكومة هو المفكِّر. حدث انفصامٌ حادّ بين ما كان من رؤية، وما صار من سياسات.

ثمّة مشروع سياسى كبير يقارب النظرية.. كان حادثاً قبل وبعد الدكتور داود أوغلو. إنّه مشروع «الأوْربة».. أن تكون تركيا دولة أوروبية.

فى عام 2019 تكون قد مرّت ستون عاماً كاملةً على أول وقوف على باب أوروبا. ففى عام 1959 كانتْ أول طرقةٍ على باب القارة.. ثم تلكأت القارة طويلاً إلى حين نظرت من ثقب الباب تتطلّع فى ذلك المقبل من الشرق. استغرقت المسافة بين «الطرقة» و«النظرة» أكثر من ربع قرن.. حيث تم السماح لتركيا بتقديم الطلب عام 1987.. ثم بعد عشر سنوات كاملة.. قالت أوروبا إن تركيا مؤهلة للحوار.. كان ذلك فى عام 1997. لم يبدأ الحوار بمجرد الإعلان أن تركيا مؤهلة لذلك.. فلقد استغرق الأمر قرابة عقد آخر.. ففى عام 2005 فقط بدأت المفاوضات بشأن احتمالات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبى. وهكذا نصف القرن تقريباً بين «الطرقة» و«الجلسة»!

فى خريف 2018 عبّر الرئيس رجب طيب أردوغان غاضباً عن المهانة التى لحقت ببلاده بسبب طول الوقوف على باب بروكسل: «من يصدق هذا.. نحن فى عام 2018.. إننا نقف منذ عام 1959.. وما زلنا فى حالة انتظار».

إن أوروبا لا تريد تركيا.. لقد باتتْ هذه حقيقة، لا برلين ولا باريس تريدان أنقرة.. قال الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون: «تركيا معادية لأوروبا».. وقالت الزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل: «تركيا لن تصبح أبداً عضواً فى الاتحاد الأوروبى».

تهاجم إدارة الرئيس أردوغان أمريكا وتراها سبباً فى عرقلة دخول تركيا الاتحاد الأوروبى. لكنَّ هناك من يرون أن الولايات المتحدة هى التى تدفع فى هذا الاتجاه.. وليس العكس. من بين هؤلاء الدكتور محمد بيرينجليك، الأستاذ فى جامعة إسطنبول، الذى تحدث إلى موقع «ريتما أوراسيا» قائلاً: «إنَّ عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى هى جزءٌ من خطّة أمريكا».. «إن أمريكا تريد إضعاف الحلف الألمانى الفرنسى، وخلق حالة من عدم الاستقرار السياسى فى أوروبا.. بما يلغى المنافسة الأوروبية لأمريكا. كما أن وقوف تركيا على عتبة الاتحاد الأوروبى.. يمنح أمريكا فرصة التحكم بها.. وإبعادها عن المشروع الروسى فى الشرق الأوراسى».

إن استمرار إغلاق باب بروكسل أمام أنقرة.. دفعها إلى التفكير فى الوقوف على باب موسكو.. أن تكون عضواً فى الاتحاد الأوراسى. يضم «الاتحاد الاقتصادى الأوراسى» خمس دول هى: روسيا، وروسيا البيضاء، وكازخستان، وأرمينيا، وقيرغيزستان. ولقد بدأت هذه المجموعة فى تحدى الولايات المتحدة.. وفى عام 2018 كانت نسبة كبيرة من التبادل التجارى بينها بالعملات الداخلية وليس بالدولار. كما أن «الاتحاد الأوراسى» بات يعمل على التعاون مع رابطة جنوب شرق آسيا «الآسيان» وهى تضم عشر دول. وهو يسعى أيضاً للتعاون مع مجموعة دول «البريكس»، التى تضم خمس دول: «الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا».

إذاً فإنَّ المنظومة الكبرى لتحدى الهيمنة «الأطلسية» تتشكل من ثلاث مجموعات: الأوراسى، والآسيان، والبريكس. تعمل جميعها على تنويع ركائز القوة الاقتصادية والسياسية فى العالم.

يتطلَّع «الاتحاد الأوراسى» لضمِّ تركيا.. وانتزاعها من «الحلم الأوروبى» إلى الواقع الأوراسى. إن تركيا تشترك مع الشرق أكثر مما تشترك مع الغرب، إنَّ الصين هى الشريك الاقتصادى الأول لتركيا، وروسيا هى الشريك الثانى. وفى مجال الطاقة.. ترتبط تركيا بمصالح فى «الاتحاد الأوراسى» وليس فى «الأطلسى».. وقد تصاعدت أصوات من ينادون فى تركيا بالاتجاه شرقاً.

وهكذا تمضى تركيا مرتبكة بين أكثر من طرح.. بين الأطلسى حيث تعمل منذ ستين عاماً، وبين الأوراسى حيث تفكِّر منذ عام 2016، وبين الجنوب الشرق الأوسطى.. حيث تتطلَّع بقايا «الإمبريالية العثمانية» إلى توسيع النفوذ، وعودة بعضٍ ممّا كان.

وسط ذلك كله، لا تثق الجهات الثلاث فى تركيا بالقدر الكافى، الغرب يراها شرقاً، والشرق يراها غرباً، والجنوب يراها خِصماً.. بينما تركيا لا ترى على نحو دقيق.. ما الذى يجب أن يكون؟ وما الذى يجب ألّا يكون؟

تحتاج تركيا إلى الاعتذار لذاتها قبل أن تعتذر لمحيطها.. ثم إنها تحتاج إلى أن تجلس فى مكتبة جامعة إسطنبول.. وتشرع فى القراءة من جديد.. لأجل وضع نظرية سياسية جديدة.

أن تدرك متأخراً خير من ألا تدرك أبداً.