انتحار سياسى على الطريقة الفرنسية

يبدو أن الإصلاحات التى وعد الرئيس الفرنسى ماكرون شعبه فى الكلمة المرتقبة منذ فترة ليست كافية أو مقنعة، فعقب الكلمة ثار جدل داخل الأسرة الواحدة: هل زيادة الحد الأدنى للأجور 100 يورو، وإرجاء الضرائب التى كانت مقررة ومحاولة زيادة القدرة الشرائية تستوعب مطالب حركة السترات الصفراء التى كانت رفعت سقفها إلى استقالة ماكرون نفسه، وحل الجمعية الوطنية وسحب الثقة كاملة من الحكومة؟

بعض أفراد الأسرة الفرنسية رأوا أن هذه الوعود الرئاسية تكفى، بينما رأى آخرون وهم الأغلبية أنها غير كافية وأصروا على مواصلة التمرد على النظام السياسى يوم السبت الخامس وصولاً إلى الاستجابة لمطالبهم واستقالة ماكرون، رئيس الأغنياء، والذى رفض فرض ضرائب على الثروات، وقالوا فى إصرار إن شعبيته سوف تواصل تدنيها بحيث يكون أكثر رئيس فرنسى خسر شعبيته فى زمن قياسى.

وضرب الكثير من مرتدى السترات الصفراء وعوده الإصلاحية عُرض الحائط، ولم يلقوا بالاً لاعتذاره وعدم فهمه منذ البداية دوافع التظاهر كما قال، ولا شك أن الشرطة الفرنسية سوف تشدد قبضتها على شارع الشانزليزيه وبيوت الأزياء العالمية والمصارف إلى جانب الفنادق والمطاعم تحسباً لعنف متوقع من جانب الحركة التى كلفت فرنسا الكثير اقتصادياً وضربت موسم الأعياد (الكريسماس) وأعياد الميلاد وحطمت بعض التماثيل وأحرقت السيارات بطريقة غير مسبوقة.

أياً كان الأمر، فإن إيمانويل ماكرون يجد نفسه فى مأزق لا سيما أنه رفض المطالب الخاصة باستقالته، فهو لم يمض فى مقعد الرئاسة سوى 18 شهراً، وكان الناخبون الفرنسيون اختاروه ليجلس 5 سنوات.

كما رفض حل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات مبكرة لأن أكثر من ثلثى الجمعية الوطنية منحازون له، ومن ثم يضمن تمرير قراراته بسهولة، وفى حالة حلها وإجراء انتخابات مبكرة فإنه لن يضمن فى هذه الظروف الصعبة الأغلبية كما هى الحال الآن، وهذا معناه انتحار سياسى له ولحزبه (الجمهورية إلى الأمام)ولذلك فإنه لن يلجأ إلى هذا الإجراء مهما كلفه من تحديات ناهيك عن أحزاب اليمين المتطرف واليسار المتطرف التى تناصبه العداء وتتمنى زوال حكمه بين يوم وليلة. ولا شك أن السيدة مارين لوبين، زعيمة اليمين المتطرف تنتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر فكانت أول من سمى هذه الأحداث بالثورة، كما تتمنى، فى خطوة تالية لانسحاب فرنسا من الاتحاد الأوروبى والعودة إلى زمن الفرنك وسحقاً لليورو التى تحمّله ارتفاع الأسعار وتدنى القوة الشرائية.

والشىء نفسه ينتظره اليسار المتطرف التى تؤكد وسائل الميديا تورط روسيا وأيضاً أمريكا فى هذه الأحداث، خصوصاً أن ترامب يريد تقليم أظافر ماكرون عقاباً له على تصريح أطلقه قبل أسبوعين عن ضرورة تشكيل جيش أوروبى موحد!

اليوم يشعر ماكرون بأنه ريشه فى مهبّ الريح ودول الاتحاد الأوروبى لم تحرك ساكناً حياله وبريطانيا تعيش أجواء قاسية بسبب بريكست، أما ألمانيا فقضية السكك الحديدية قد هزتها وميركل نصيرته لم تعد رئيسة لحزبها، والسترات الصفراء ترتعد فرائص بلجيكا وهولندا منها خشية العدوى واحتمال أن تصبح أكثر ضراوة فيهما بعد النجاح النسبى لها فى فرنسا.

بمعنى آخر إيمانويل ماكرون فى مأزق، وأصبح مستقبله السياسى فى خطر، فالرجل يخاطر بمبادئه وأفكاره بعد اتهامه بأنه رئيس الأغنياء، وأحسب أنه يشعر بالوحدة بعد أن وجد نفسه وحيداً فى مواجهة الشعب الغاضب الذى يريد أن يحرق باريس إذا ظل فى مكانه.

الغريب أن أحداً لم يتعاطف معه بعد الكلمة التى ألقاها عبر التلفاز، وشعر بأن قراراته ليست إلا صرخة فى البرية والدعم الذى كان ينتظره من الأحزاب السياسية ضعيف ولا يكاد يُذكر والسبب هو التهميش الذى تعيش فيه بعد تولى ماكرون السلطة فى البلاد.

ولا شك أن الخيار صعب للغاية بين ماكرون وحركة السترات الصفراء، فهو إذا استمر فى مقعده السياسى فلن يضمن ماذا ستفعل الحركة، وإذا استجاب لهم واستقال فسوف يُقدم على انتحار سياسى مرتقب.

ويبدو أن التاريخ الفرنسى سيعيد نفسه، فما حدث للزعيم شارل ديجول قد يحدث للرئيس ماكرون، فالطلبة لم يكونوا يريدونه، وهو مؤسس الجمهورية الخامسة، والذى حارب الاستعمار وأسس فرنسا الحرة، ورغم ذلك انتهى هذا الزعيم بالانسحاب من الحياة السياسية وظل فى قريته وحيداً إلا من بعض الذكريات حتى مات، فهل هذا سيكون مصير ماكرون؟ سننتظر ونرى.