كاتمة الأسرار

كاتمة الأسرار
عطر الياسمين المختلط بلفحة هواء ساخن تداعب بشرته السمراء وشعاع الشمس الخجول ينفذ إليه على استحياء من خلال تلك الشجرة العملاقة .. يجلس على نفس الكرسي الخشبي العتيق غير المريح أمام "كاتمة الأسرار" يحدق في ذلك التمثال البديع الذي نحته الفنان محمود مختار وهو لفلاحة جالسة تضم ركبتيها لصدرها وتثني جذعها للأمام.. وكأنها تنصت إليك في اهتمام بالغ فتشجعك على إخراج كل ما في قلبك وتكتمه داخل صندوقها الأسود، فلا يعرف سرك سواها ولا تبوح به لأحد.
ينظر إلى العاشقين الجالسين في الجهة القابلة.. وقد تشابكت أيديهما.. وانفصلا عن عالمنا.. ودخلا عالماً آخر لا تعرف سراديبه إلا كاتمة الأسرار..
منذ أكثر من عشر سنوات كانت هنا معه، يشتم رائحتها ويسمع همس صوتها الخفيض في أذنيه.. يرى ذلك "البالطو الأبيض" وعليه كشكول المحاضرات، الذي كانت تضعه دائماً في منتصف الكرسي بينهما ..
وبينما هو غارق في تأملاته.. أفزعته يد لكزته في ظهره .. فاستدار ليجد رجلاً غث الثياب كريه الرائحة يغطي وجهه سواد كالطين يشير إلى فمه ويتمتم .. دون أن يفكر ناوله علبة سجائره .. مضى الشريد سعيدا وجلس على الأرض وأشعل سيجارة يلتهم أنفاسها بنهم.. لا يتوقف عن تحريك عنقه يمينًا ويساراً..
أخد يلوح بيده لكاتمة الأسرار.. وراح يسب ويلعن بصوت عالٍ ثم يقول "اتغربت عشانك.. وأنتى...." ثم يسب جنس النساء على إطلاقه!
لم يسيطر على دموعه .. حينما تذكر كلمات حبه الأول.. لما صارحها بأنه يجب أن يسافر من أجل أن يتوج حبهما بالزواج .. وراح يبث حزنه إلى كاتمة الأسرار تماماً كذلك الشريد الجالس على الأرض!