فى اليمن.. لا غالب ولا مغلوب

محمود توفيق

محمود توفيق

كاتب صحفي

كيف مرت كل هذه السنوات ولم يستطع جيش دولة أن يحسم معركة مع جماعة متمردة؟.. هذا هو السؤال الذى يطرحه كل من تابع ويتابع معركة الحكومة الشرعية فى اليمن مع جماعة الحوثيين منذ عام 2004 حتى الآن، والتى شهد خلالها اليمن قتالاً حقيقياً بين القوات الحكومية وجماعة أنصار الله الحوثى، وهى جماعة متمردة قادها أنصار حسين الحوثى من فوق جبال مران بمحافظة صعدة الواقعة فى أقصى الشمال. والتهمة الموجهة لهذه الجماعة هى السعى لقلب نظام الحكم واستعادة حكم الأئمة الزيديين فى اليمن وهو الحكم الذى استمر فى أسرة حميد الدين خلال الفترة 1891-1962. فإن القبائل التى ينتمى إليها الزيود كقبائل «حاشد ودهم والأعروش» قبائل مسلحة، فما أن يبلغ الفرد فيها سن الحلم حتى يتسلح بالخنجر والبندقية الآلية. واللافت للنظر والغريب فى الوقت نفسه، أن الحرب الدائرة بين الحكومة الشرعية وهذه الجماعة مرت بفترات تهدئة بموجب اتفاقات برعاية دولية، وكأنما هما قوتان متكافئتان أو ذراعا قوة ومقاومة، تحكم العلاقة بينهما صيغة توفيقية لا غالب فيها ولا مغلوب. والسؤال الذى يطرح نفسه: كيف وصل توازن القوى بين جيش دولة وميليشيات جماعة إلى الحد الذى طال معه أمد هذا الصراع حتى الآن دون حسم؟ ولا شك أن وراء هذه الظاهرة أسباباً عديدة، أولها يتعلق بعقيدة الحوثيين أنفسهم التى تحثهم على الجهاد وعدم إلقاء السلاح حتى يتحقق الهدف المنشود، وثانيها يتعلق بدور إيران الداعم لهذه الجماعة بوصفها دولة الحماية الشيعية فى العالم الإسلامى، والذى تحولت على أثره المعارك إلى حرب بالوكالة بين السعودية وإيران، وثالثها التساند القبلى - السياسى الذى تمثل بشكل واضح فى دور القوات الموالية للرئيس المخلوع على عبدالله صالح فى مساندة هذه الجماعة التى انقلبت عليه فى النهاية وقامت بتصفيته. ولكن السؤال الذى يطرح نفسه هنا: لماذا لم تحسم الحكومة الشرعية هذا الصراع حتى بعد دخول قوات التحالف العربى كطرف فيه منذ مارس عام 2015 كحليف داعم للقوات الموالية لهذه الحكومة؟ والمعروف أن قيادة السعودية لهذا التحالف المدعوم من واشنطن جاءت من منطلق استشعارها الخطر المتمثل فى المد الشيعى الثورى الذى تسانده إيران على أرض اليمن، التى تمثل من ناحيتها الفناء الخلفى backyard للسعودية ومن ورائها دول الخليج بطابعها السنى - المحافظ. وعلى الرغم من الثقل العسكرى النسبى لهذا التحالف، سواء من خلال تزويده للقوات الحكومية بالأسلحة المتطورة أو استخدامه للسلاح الجوى فى مساندتها، إلا أن ذلك أيضاً لم يحسم هذا الصراع لصالح القوات الحكومية حتى الآن خاصة مع التطور النوعى الذى طرأ على تسليح ميليشيات الحوثى من خلال الأسلحة الإيرانية المتطورة التى يقوم حزب الله بتهريبها بحراً إلى ميناء الحديدة عن طريق الموانى السورية، ومن بينها الصواريخ الباليستية التى تستهدف عمق الأراضى السعودية. ويرى كاتب هذا المقال أن صعوبة الحسم تعود فى المقام الأول إلى طبيعة سطح هذا البلد الذى تغلب عليه الطبيعة الجبلية الوعرة بقممها المرتفعة التى تحصر فيما بينها أحواضاً جبلية منعزلة، شكلت قواعد لبيئات اجتماعية تبلورت فيها نظم قبلية - طائفية متباينة، حتى إن معسكرات الجيش اليمنى مثلاً كانت تتوزع على المناطق وفقاً لنظام المحاصصة القبلية، وهو الأمر الذى انعكس فى النهاية وبشكل سلبى على العقيدة القتالية للجندى اليمنى، الذى يتوزع ولاؤه بين العقيدة القبلية - الطائفية والعقيدة الوطنية. ولم يقتصر دور الطبيعة الجبلية على تعميق جذور القبلية - الطائفية بآثارها السلبية على الانتماء الوطنى والعقيدة القتالية للجيش اليمنى، بل امتد أثرها أيضاً إلى ضبط العمليات القتالية نفسها. فحرب الجبال كما هو معروف تحد من قدرة القوات النظامية على استخدام آلياتها ومعداتها الميكانيكية الثقيلة بأقصى طاقة ممكنة وأن المناطق الجبلية تقيد حرية الحركة والمناورة للقوات الثقيلة التدريع، بينما تمنح هذه الحرية للقوات المتمردة الخفيفة التسليح التى تعتمد عملياتها على الكر والفر، وخير شاهد على ذلك تلك التجربة الخاسرة المريرة التى خاضها الجيش المصرى فى اليمن خلال الفترة (1962-1967). ولأن طبيعة القتال فى الأرض الجبلية تدفع بالقوات المتحاربة إلى القتال المتلاحم، لذا فإن استخدام القصف الجوى فى مساندة القوات البرية يظل مقيداً إلى حد كبير ومحفوفاً بالمخاطر، ولعل اعتراف قيادة قوات التحالف العربى مؤخراً بوقوع أخطاء فى غارة نفذتها طائرة تابعة له وأدت إلى مقتل أكثر من 50 شخصاً بينهم 40 طفلاً فى إحدى أسواق محافظة صعدة، خير دليل على ذلك.

ومع كل يوم يمر على هذا الصراع الذى استمر لنحو عقد ونصف من الزمان، مخلفاً وراءه مأساة إنسانية جعلت من اليمن منطقة إغاثة دولية، وهو الذى كان فيما مضى يعرف باليمن السعيد. فى ظل كل هذا لم يعد أمام أطراف الصراع سوى البحث عن آلية للتوصل إلى تسوية سياسية، تقبل بجماعة الحوثى كشريك أساسى فى الحياة السياسية، وذلك بعد أن أصبح واضحاً أنه ليس هناك طرف فى المشهد اليمنى يستطيع أن يحسم صراعاً لصالحه مهما بلغ من القوة، فلا غالب ولا مغلوب طالما ظلت قوانين الحتم البيئى environmental determinism هى القوانين الحاكمة فوق هذه الأرض، التى عرفت فى الأدبيات المتواترة بأنها أرض بلا سيد land without lord.