«درع العرب» والأمن الاستراتيجى للمنطقة

جمال طه

جمال طه

كاتب صحفي

مناورات «درع العرب 1» بدأت 3 نوفمبر الحالى، بمبادرة مصرية، تستغرق أسبوعين، بقاعدة محمد نجيب العسكرية، وامتدادها بنطاق البحر المتوسط، تشارك فيها السعودية والإمارات والكويت والبحرين والأردن، إضافة للمغرب ولبنان كمراقبين.. مناورات شاملة، تضم تشكيلات من القوات البرية والبحرية وقوات الدفاع الجوى والقوات الخاصة، طول مدتها يعكس الحرص على التدريب على عمليات واسعة ممتدة ذات طابع استراتيجى.. جغرافية الدول التى تشارك فيها، واختيار مناطق التدريب الجوية والبحرية شرق المتوسط، يشيران إلى أن الهدف يغطى المخاطر التى تتعرض لها المصالح العربية فى الخليج والبحرين الأحمر والمتوسط.. والرقم واحد، يعنى أنها بداية لآليات دفاع دورية ومنتظمة.. مصر أجرت سلسلة من المناورات الثنائية مع الدول المشاركة، كل على حدة، مناورات «تبوك» مع السعودية، «زايد» مع الإمارات، «اليرموك» مع الكويت، «خالد بن الوليد» مع البحرين، «العقبة» مع الأردن، لكنها المرة الأولى التى تشارك فيها كل تلك الدول مجتمعة فى مناورة مشتركة مقصورة عليهم، هذا التطور يعكس رؤية استراتيجية واعية، تحرص على تحقيق التوافق الثنائى كطريق للانتقال إلى العمل الجماعى.

القوات المسلحة للدول العربية نفذت 25 مناورة عسكرية مشتركة منذ مطلع 2018، اختلفت نوعيتها من حيث القوات «برية، بحرية، جوية، قوات خاصة»، وتنوعت أهدافها ما بين تعزيز التوافق بين التشكيلات، دعم جهود الاستقرار، مواجهة تهديدات المنطقة، ومكافحة الإرهاب.. بعضها اقتصر على مشاركات ثنائية، والأخرى جماعية.. منها ما اقتصر على دول عربية، ومنها ما اتسع ليضم دولاً أخرى إقليمية وغربية، لكن مصر هى الدولة الوحيدة التى أجرت مناورات مشتركة مع روسيا «حماة الصداقة».. تعدد وكثافة وتنوع المناورات يعكس شعوراً عاماً بأن المنطقة مقبلة على حالة من عدم الاستقرار؛ ربما تهديدات عسكرية، أو نشاط مضاد داخلى متزامن، يهدد الأمن، وقد يؤدى إلى مواجهات عسكرية.. وهناك بالفعل تصاعد للتوتر الإقليمى بسبب عمليات الإثارة التى تقوم بها أمريكا، لأسباب تتعلق بتهيئة المناخ لتمرير صفقات سياسية بين إسرائيل والفلسطينيين والعرب، فيما يسمى «صفقة القرن».. عمليات التعبئة والشحن تتم بحجة مواجهة الخطر الإيرانى، رغم أن أمريكا استثنت من قرارات الحظر عليها 8 دول، هى فى الواقع المستورد الرئيسى لنفطها، ما يؤكد أنها كانت وستظل أهم أدواتها بالمنطقة.. ومما لاشك فيه أن إثارة التوترات الراهنة تستهدف أيضاً تحقيق المزيد من الطلب على مشتريات السلاح، التى تفوز أمريكا عادة بنصيب الأسد منها.

الإعلام المضاد ووسائل التواصل يسعيان للربط المتعمد بين بدء المناورات ولقاء مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكى، بنيويورك، سبتمبر الماضى، مع وزراء خارجية الدول المشاركة فيها، للإيحاء بأن تلك المناورات مقدمة لتكتل إقليمى؛ فى صورة حلف «ناتو عربى»، أو «تحالف استراتيجى للشرق الأوسط»، أو «تكتل سنى»، فى مواجهة طهران، لكن ذلك ربط فى غير موضعه.. أولاً لأن الاجتماع المشار إليه دُعى إليه وزيرا خارجية قطر وسلطنة عُمان، رغم أن بلديهما لم تشاركا فى المناورات، ولا يمكن لهما الانضمام إلى التكتل المزمع، لأنهما ترتبطان مع إيران باتفاقيات للتعاون والتنسيق الأمنى والعسكرى، ويجمعهما تعاون اقتصادى وتجارى ضخم، مما يستبعد معه انخراطهما فى أى تكتل مضاد لها.. ثانياً لأن الخلافات بين كل من مصر والكويت والأردن مع إيران لم تبلغ عمقاً يدفعهم إلى الدخول فى ترتيبات عسكرية إقليمية استعداداً للمواجهة.. وثالثاً أن سياسة مصر الخارجية وتوجهاتها الاستراتيجية تلتزم بعدم الانخراط فى أحلاف أو تكتلات سياسية ترتبط بصراعات دولية أو إقليمية لا تمسها مباشرة.. إذاً مناورات «درع العرب 1» تتم فى إطار تعاون مشترك وتنسيق أمنى ودفاعى فى مواجهة التهديدات الموجهة للمنطقة، أياً كان مصدرها، لكنها لا تستهدف عدواً بعينه.. هى خطوة عملية لتحقيق «مسافة السكة».

ضخامة مناورات «درع العرب 1» تثير قلقاً لدى أطراف إقليمية عديدة.. تركيا لأن ساحة التدريب تمتد إلى نطاق البحر المتوسط، الساحة الرئيسية لتحركاتها العدوانية، فى محاولتها للسطو على جزء من الثروات الطبيعية من الغاز والبترول بالمنطقة، خاصة أن هذه المناورات سبقتها مناورات «ميدوزا 6» بين مصر واليونان وقبرص على نفس الساحة يونيو الماضى، والمناورات المشتركة مع باكستان فى سبتمبر، والتى تضمنت أعمال التفتيش للسفن المشتبه بها فى البحر المتوسط، لدعم الأمن البحرى بالمنطقة.. إيران قلقة لأن الساحة الرئيسية التى تمت فيها مناورات «تبوك 4» فى أكتوبر كانت المنطقة العسكرية الجنوبية على البحر الأحمر، المواجهة لتهديدات حلفائها الحوثيين، ومناورات «درع الخليج 1» التى سبقتها فى مارس تمت بالمنطقة الشرقية الأقرب إليها.. قطر قلقة من أن نجاح تجمع عسكرى كهذا يعنى المزيد من قوة الحصار الذى تفرضه عليها دول الرباعى العربى، الكاتب دوج باندو، المساعد الخاص للرئيس الأمريكى الأسبق ريجان، ذهب إلى أن السعودية والإمارات تسعيان لتحالف يرهبان به جيرانهما المعتدلين، وهو ما يفسر الضغوط الأمريكية المتنوعة لإنهاء مقاطعة قطر.. وإسرائيل قلقة من أن تعزيز مثل هذه المناورات للقدرات الذاتية للدول العربية قد يفرض صعوبات فى وجه تمرير مشروعات التسوية التى تسعى لفرضها.

العرب سئموا الابتزاز الأمريكى، يسددون قيمة صفقات الأسلحة، إلا أنها تبحث دائماً عن مقابل إضافى لعلاقات التعاون العسكرى، متغافلة عن المصالح التى يحققها وجودها بالمنطقة، التغيرات الجديدة فى تركيبة الكونجرس بعد الانتخابات قد تعنى تغييراً فى السياسة الأمريكية، يحد من اهتمامها بأمن حلفائها بالمنطقة، وهو ما يفسر تعدد مناورات دولها، والمحاور الثنائية، والتكتلات الجماعية.. مصر والسعودية قاسم مشترك فى معظم المناورات العسكرية المشتركة بالمنطقة، مصر لم تتمكن من تأسيس القوة العربية المشتركة التى دعت إليها فى قمة شرم الشيخ 2015، والسعودية عجزت عن التوصل إلى اتفاق لإعادة هيكلة مجلس التعاون الخليجى فى اتجاه المزيد من الفاعلية، بتوسيع عضويته لتشمل بعض الدول الأقرب إليها «المغرب، الأردن..»، المخاطر التى تتعرض لها المنطقة، فى الخليج والبحرين الأحمر والمتوسط، تفرض الاعتماد على النفس فيما يتعلق بالأمن الاستراتيجى، وسرعة وضع آليات دفاع فعالة، تستند إلى قوة ذاتية، وتنسيق مشترك، يكفل الأمن الوطنى، وأمن المنطقة، ويتصدى للمخاطر والتهديدات التى نتعرض لها.. «درع العرب» فرصة لتعويض ما مضى.. وخطوة عملية على طريق ينبغى استكماله.