"أرزقية" إشارات المرور.. أرمل عجوز "مقطوع من شجرة" ومواطن تحول من موظف إلى "بائع مناديل"
"أرزقية" إشارات المرور.. أرمل عجوز "مقطوع من شجرة" ومواطن تحول من موظف إلى "بائع مناديل"
الكل يختنق من توقفها، فعادم السيارت هو الشيء الوحيد الذي يستنشقونه، يتصبب العرق على جبهات السائقين، بينما تفشل المناديل الورقية فى القيام بعملها وتجفيف جباههم، العد التنازلي لإشارة المرو قد بدأ، الشاشة الضوئية تعلن أنه باقي من الزمن 5 ثوان، بعدها سيتم إغلاق الإشارة، يُسرع سائقو المركبات حتى يستطيعوا المرور من الإشارة قبل إغلاقها عليهم، بينما يستعد على الجهة الآخرى عم "حسني" حتى يقوم بمهنته اليومية، ومع ترقب الطرفان للإشارة الحمراء، يُطلق عسكري المرور صفيرًا ويُشير إلى السيارات بالتوقف، تمتعض الوجوه، ويتأفف الكثير، ويزيدون من سرعة تكييف مركباتهم، بينما يُفاجئون بطرقات عم "حسني" الرجل صاحب الثمانين عامًا، على زجاجهم المقفول، يسير العجوز ببطىء شديد، مرتديًا جلبابه المُرقع رمادي اللون، وشبشب بلاستيكي مُهترىء، بينما تُميزه لحية بيضاء زينت وجهه، ومنديل قماشي يقبض عليه بيده اليُمنى.
الرجل اليتيم يحاول استعطاف أهل الخير من خلال اشارة مرور المنيل، الذي يبعث توقفها النشوة عليه، فى الوقت الذي يتأفف الركاب من توقفها، عم "حسني" كما يقول على نفسه "مقطوع من شجرة.. مخلفتش ومراتى ماتت وهيه صغيرة، أما إخواتى فحصلوها، وولادهم محدش فيهم بيسأل عليا"، تتهلل أسارير الرجل الهرم فور قيام إحدى السيدات بفتح نافذة زجاجها، ليهرع نحوها بتثاقل، فيقبض بيديه على ما استطاعت إخراجه من مال، ليضعه "حسني" فى كيس بلاستيكي داخل جلبابه، يعيش الرجل المُسن فى عِشة صغيرة بعزبة "أبو قرن" العشوائية فى منطقة الملك الصالح، يأتى لمزاولة عمله كل صباح، وحتى الثامنة مساءًا حيث يُنهى الشقاء ما تبقى له من "صحة"، ليس له سوى أمنية واحدة فى الحياة: "عاوز لما أموت مترمطش.. ألاقى اللى يغسلنى واللى يكفّني ويدفنونى بسُرعة".
داخل ميدان الجيزة، ولأن سير السيارات لا يحتاج إلى إشارات مرور، لأن الطريق مزدحم دائمًا، كانت أرضًا خصبة للباعة الذين يتجولون بين السيارات، ومنهم عم "محمد حسين" –صاحب السبعين عامًا- الذي يقف وسط الميدان، على جانب الطريق، متكئًا على إحدى السيارات بسبب عجز قدمه اليُمنى عن السير نتيجة حادثة أصيب خلالها، حاملا بيديه المناديل الورقية، دون حتى المناداة على بضاعته: "احنا على باب الله.. والناس عارفة إن احنا بنبيع الحاجات دى عشان نسترزق.. فملهوش لزوم إن احنا ننادي".
"حسين" القادم من منطقة إمبابة؛ أب لـ "5 أولاد": "كلهم متجوزين والحمد لله لكن كل واحد ملخوم بعياله"، قبل 10 سنوات كان الرجل العجوز يعمل فى البلدية، حيث يقوم بتنظيف الشوارع، مقابل 450 جنيه شهريًا، وبعد أن خرج على المعاش، لم يلتفت إليه أحد من أبنائه: "أنا بصراحة عازرهم... كل واحد فى شغله.. والدنيا تلاهي.. واحنا أساسا حالتنا فقيرة قوي"، فقرر بعدها بيع أكياس "المناديل" في إشارات المرور أو الشوارع المزدحمة، لا يتمنى "حسين" سوى الستر من عن الله.
البائعين المتجولين بين الإشارات المرورية، لهم وظيفة أخرى، فـ "شعبان" مُهمته هى إطعام المتأزمين على طريق المحور: "المحور ده رزقه كتير والحمد لله، الواحد يقعدله ساعتين عشان يوصل لمكانه.. أكيد هيجوع فيهم"، يُنادى صاحب الأربعين عامًا: "بيض.. سميط.. جبنة"، زبائنه المعتادين أغلبهم سائقو الميكروباصات، منذ السادسة صباحًا يقف "شعبان" على المحور قادمًا من محل سكنه فى منطقة المنصورية، حصل على دبلوم تجارة لكن ظروف البلد كانت حائلا أمام استمراره في وظيفة "زى الناس والواحد يحافظ فيها على كرامته"، من 30 – 50 جنيه هذا هو العائد اليومي لـ "شعبان": "الواحد مبيعرفش يوفر حاجة.. ويدوبك انا بشتغل عشان اكفي مصاريف بيتى وعيالى، عندى 3 عيال كلهم فى مدارس ومصاريفهم كتير".