جغرافيا العقل البشرى

عاطف سالم

عاطف سالم

كاتب صحفي

أصبحت محددات علم الجغرافيا فى عصرنا الحديث ليست واضحة كما هى على الخرائط المساحية، فقد ساهم التقدم فى المعلومات وعلوم الاتصال فى الـ30 سنة الأخيرة فى تعديل معالم الدول وإزالة الحواجز الجغرافية الثابتة، وتداخل شئون الدول فى بعضها البعض بشكل يصعب معه فكر الانعزال عن القرية الكونية.

ولم تتغير الجغرافيا وحدها، بل تغيرت معها أنماط الفكر والسلوك السياسى الدولى بدرجة غير مسبوقة، فتفككت تحالفات وتوسعت تحالفات أخرى، واختلفت درجات التحالف بين الدول، وتشكلت ملامح العمل السياسى ونظريات العلاقات الدولية بأشكال جديدة وأطر مختلفة لم تكن مدرجة فى كتب السياسة القديمة ودون الدخول فى تفاصيل تفكك الاتحاد السوفيتى، وانهيار حلف وارسو وانضمام أعضاء الحلف الأخير فى حلف الناتو، والتغير الجذرى فى منطقة الشرق الأوسط والحروب الإقليمية وتشابك مصالح الدول الاقتصادية، والتدخل السافر فى الشئون الداخلية للدول النامية، كل هذه التطورات وغيرها تتطلب رؤية جديدة للأحداث والمصالح وإعادة النظر فى التركيبات الداخلية الثابتة للدول سواء السياسية أو الاقتصادية والبنية الاجتماعية والسكانية وخلق رؤى جديدة تتخطى الثوابت السياسية والعلاقات الإقليمية والدولية.

هذه الرؤى يجب أن تنطلق خارج نطاق ما أطلقنا عليه «جغرافيا العقل البشرى» أى الخروج من مسطح الخريطة المساحية الراسخة فى العقل البشرى وحده إلى نطاق أوسع يوفر للدول تحقيق أمنها ومصالحها بشكل إيجابى.. وتعديل مسار العقول والأفكار لتتقبل ما هو جديد وإعادة بلورته بما يتناسب مع مصالح الدولة، وفى هذا الصدد يمكن أيضاً وضع تخطيط مرن فى التعليم والصحة والسياسة والعلاقات الخارجية والاستفادة من عناصر الدولة ومكنوناتها فى هذا التخطيط وصولاً إلى تحقيق الأهداف المرجوة..

وتحضرنى فى هذا الصدد تجارب دول استطاعت الخروج من ضائقة الجغرافيا والاقتصاد بأفكار محددة رائدة ساهم فى وضعها قادة خلدهم التاريخ بأنهم كانوا وراء هذه النهضة وأحد مسبباتها ومن بينهم سنغافورة والصين وماليزيا.. وغيرها.. هذا ولا ينبغى فى هذا الشأن تجاهل محددات الأمن القومى للدولة والتى تعتبر المرتكز الأساسى للحفاظ على كينونة الدولة وهيبتها.. ويعتبر الفرد فى كل دولة هو المحور الرئيسى الذى يمكن الاعتماد عليه لمواجهة التغيرات الشديدة التى يشهدها العالم حالياً.. فالتدريب والتنمية البشرية وإعادة تصنيف المهارات والاستفادة منها وعدم شخصنة الأمور والتعليم الجديد والتشغيل المناسب وغيرها من المهارات المكتسبة تعد مرجعاً أساسياً لتقدم الدولة وقدرتها على التعامل مع متغيرات القرية الكونية وإعدادها للمستقبل بشكل متميز، هذا فضلاً عن إعادة تأهيل الكوادر بالمستويات العالمية، والاستفادة من تراث الدولة ومواردها بالشكل الذى يتناسب مع أهمية هذا التراث وقيمة هذه الموارد، ولا شك أن مصر اتخذت خطوات جادة فى هذا الطريق خلال السنوات الأخيرة، إلا أن هناك العديد من الخطوات الأخرى التى يمكن اتخاذها لحلحلة الرواسب القديمة وإعادة هيكلة التنظيم الإدارى والعلمى والاقتصادى، وفتح آفاق العلاقات الخارجية فى جميع الاتجاهات للاستفادة من تجارب الدول الأخرى، وبناء علاقات راسخة ذات نفع متبادل.. خاصة إعادة التأهيل، وتحديد التوصيف الدقيق لكل المهام المتاحة.

ولن يستقر الأمر على تغير محددات الجغرافيا وحدها، فالتاريخ البشرى أيضاً يتعرض للتغيير على المستوى الدولى، ويساهم فى ذلك التقدم العلمى فى مجالات الإعلام والتواصل، ومحاولات تغيير الثوابت وتعديل الحقائق التاريخية بما يتفق مع مصالح الدول، وقدراتها الاقتصادية والمالية ومدى قوة انتشار نفوذها الدولى، ومن ثم يتضح أهمية دور الدولة فى نشر ثقافتها وتاريخها بالوسائل والإمكانات المتاحة والاستفادة من هياكلها التنظيمية فى القيام بهذا الدور بشكل ثابت ودورى لمواجهة آفات العصر الحديث..