جمال خاشقجى.. غموض حتى النهاية

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

اختفاء أحد الصحفيين أو الناشطين السياسيين أو زعامة روحية ليس أمراً جديداً، هناك الكثيرون الذين اختفوا فجأة ولم يُعثر لهم على أى دليل، لكن تظل قصص اختفائهم تثير خيالات المعلقين والمتابعين إلى حد سرد تفاصيل متوهمة باعتبارها الحقيقة التى لا تقبل الشك أبداً، وفى عالم السوشيال ميديا الخالى من القيود تُقال الحكايات والتفسيرات وعكسها فى الآن نفسه ومن المصادر نفسها بلا خجل، الرغبة فى اكتساب شهرة زائفة تطغى أحياناً على الكثيرين، دون إنكار أن هناك متابعين يعلقون بحكمة ودون استفزاز، ولكنهم قلة مقارنة بالأكثرية التى تغلبها العواطف الجياشة.

اختفاء الصحفى جمال خاشقجى لن يكون استثناء من سرد الروايات والتفسيرات المتناقضة، خاصة أنه جمع بين صفتى تأييد بلاده، ثم معارضة بعض الإجراءات منذ فترة محدودة، ما دفع كارهين للمملكة إلى دعمه دعائياً، وفى جزء مما يُقال إن خطيبته التركية المحتملة كانت معه حين ذهب إلى قنصلية بلاده للحصول على تصريح بالزواج، مرة يُقال إنها كانت تنتظره خارج مبنى القنصلية وإنها احتفظت بهاتفه المحمول، ومرة ثانية يُقال إنها كانت تنتظر فى حجرة انتظار الزوار لحين انتهاء المعاملة المطلوبة، ومرة ثالثة يُقال إنها انتظرت فى الخارج لمدة ست ساعات وبعدها أبلغت السلطات التركية باختفاء خطيبها المحتمل، فى السياق ذاته أتى الحديث عن أن طائرات سعودية هبطت فى مطار إسطنبول يوم اختفاء الصحفى السعودى ثم غادرت بعد ساعات قليلة، البعض قال إن الطائرات حملت معها صناديق يُعتقد أنها حملت أيضاً جسد الرجل حياً أو ميتاً، روايات أخرى قالت إن الطائرات السعودية أقلعت قبل أن يدخل الصحفى سفارة بلاده، وبالتالى لا يمكن أن تكون قصة الصناديق صحيحة، مثل هذه الروايات وما فيها من تناقضات تعد جزءاً أصيلاً من الإثارة التى تحيط بمثل هذه الوقائع.

مقابل هذه الروايات التركية، هناك الرواية السعودية، والثابت أن الرجل دخل إلى سفارة بلاده، ثم خرج حسب تأكيدات القنصل السعودى ولا يُعرف إلى أين، وإنه لم يُحقق معه فى أى شىء كما يدعى البعض، ثم جاءت خطوة فتح أبواب السفارة للصحفيين للتأكد من الرواية السعودية، ولتدلل على أن الرياض ليس لديها ما تخفيه، ويدعم ذلك تصريحات الأمير محمد بن سلمان ولى العهد السعودى لينفى وجود جمال خاشقجى فى السعودية، وفى السياق ذاته جاءت تحركات أسرة جمال ذاته، حيث أكدت ثقتهم فى حكومة بلادهم وحرصها على معرفة الحقيقة، والأهم نفى أن يكون لجمال خطيبة تركية كان يستعد للزواج بها، وبالتالى نزع شرعية أية تحرك تقوم به هذه السيدة مع السلطات التركية، وفى المحصلة أننا أمام روايات متعددة، بعضها رسمى وبعضها تخيلى افتراضى.

الذين انتظروا تصريحات الرئيس التركى أردوغان بعد ثلاثة أيام من واقعة الاختفاء المثيرة، كانوا يتوقعون أن تحمل معها نهاية للغموض، وبداية لفصل أكثر توتراً بين أنقرة والرياض، هؤلاء صُدموا حين تحدث أردوغان بهدوء مؤكداً اهتمامه الشخصى بكل التفاصيل وصولاً إلى الحقيقة بعد إجراء التحقيقات اللازمة وظهور الدلائل على ما الذى حدث بالضبط، التفسيرات هنا أيضاً حملت توجهات مختلفة، أولها أنه لا توجد أية تفاصيل لدى السلطات التركية حول الحادث، ومن ثم ليس مطلوباً وضع العربة قبل الحصان وليس مطلوباً توجيه أية اتهامات لأية جهة بدون دليل، تفسير آخر يرى أن الرجل يؤجل صداماً محتملاً مع الرياض، أو أنه يعمل على ضبط الانفعالات المحتملة وتركها تبرد مع الزمن، وبالتالى يمكن حصر التأثيرات المحتملة فى أضيق نطاق ممكن، تفسير ثالث رأى أن أردوغان يجمع الدلائل لتقوية موقفه قبل أى خطوة جديدة، هنا أيضاً نلاحظ قدراً من الغموض والشكوك، لا سيما أن بعض المسئولين المقربين من أردوغان شخصياً تسرعوا فى توجيه الاتهام للسعودية مرة بخطف الصحفى ونقله إلى بلاده، ومرة ثانية بقتله والتخلص من جثته، ومرة ثالثة بنقله حياً إلى مكان مجهول داخل تركيا ذاتها، كل ذلك بدون أى دليل مادى ملموس، والتفسير الثالث تحديداً، إن كان حقيقياً فإنها توجه الاتهام إلى السلطات التركية، على الأقل أنها متقاعسة ولا تؤدى دورها جيداً فى حماية الزائرين ذوى الخصوصية.

يُذكر هنا أن تركيا تفتح أبوابها للعديد من الكوادر والأعضاء لجماعات ومنظمات إرهابية وانفصالية من جنسيات مختلفة وهم بالآلاف، تفعل ذلك بقصد التحكم فى الكثير من خيوط الاستقرار والفوضى فى الكثير من الدول المجاورة، أو التى تراها أنقرة منافسة لها، ويجب أن يكون لها دور فى تحديد مسارات العلاقة مع هذه الدول من خلال التحكم فى عناصر هذه المنظمات الإرهابية والانفصالية، وتمويلهم وتوفير ملاذ آمن لهم وأبواق دعائية وتدريب للمسلحين منهم، فى المقابل تحولت تركيا إلى ملعب مفتوح لعدد لا حصر له من عملاء أجهزة المخابرات لدول عديدة يراقبون أبناء جلدتهم من الإرهابيين والنشطاء على الأراضى التركية، ولا يخلو الأمر من عمليات جذب وإخفاء أو التخلص لبعض هؤلاء ولكن بهدوء، ولا يخلو الأمر أيضاً من وقائع مثيرة، كمقتل السفير الروسى ديسمبر 2016 فى أنقرة على يد شرطى تركى سابق، الذى أطلق النار على السفير أثناء إلقاء كلمة افتتاحية لحدث ثقافى روسى، وهى الحادثة التى نُقلت على الهواء مباشرة، وعُرف لاحقاً أن الشرطى التركى المستقيل كان غاضباً من روسيا لأنها تدخلت فى سوريا وأوقفت مشروع الدولة الداعشية هناك، فجاء قتل السفير للانتقام، الحادثة على هذا النحو كشفت الغطاء عن حجم التيارات العنيفة داخل المؤسسات الأمنية التركية ذاتها، وكذلك حجم الإهمال الأمنى، الذى ربما كان متعمداً فى حادثة قتل السفير الروسى تحديداً، وحسب الصحافة التركية فإن الأمن التركى يواجه ورطة حقيقية، فكيف له أن يؤمن الحماية الكافية لأكثر من ألف من كوادر المنظمات الإرهابية والعنيفة من جنسيات أجنبية والمقيمين فى الأراضى التركية بعلم الرئيس أردوغان وبرعايته، ورغم الكم الهائل من الاعتقالات لأتراك يشتبه فى كونهم موالين لحركة فتح الله غولن الإرهابية، وفق معايير الرئيس أردوغان، فعلى الأمن التركى أن يستمر فى ملاحقة أكبر عدد ممكن من المشتبه فيهم أو المحتمل أنهم متعاطفون مع حركة فتح الله غولن، وفى مثل تلك البيئة لا يخلو الأمر من قلة مهنية وضعف فى الأداء، وبالتالى وقوع حوادث يصعب حسمها، اللهم إلا بعد زمن طويل جداً.