القمص إبراهام عزمي يكتب: وطنية البابا تواضروس في صخب عالم السياسة

القمص إبراهام عزمي يكتب: وطنية البابا تواضروس في صخب عالم السياسة

القمص إبراهام عزمي يكتب: وطنية البابا تواضروس في صخب عالم السياسة

عبر التاريخ الطويل للكنيسة القبطية منذ بداية العصور الأولى، وكل العالم ينظر ويتعامل مع الأقباط كشعب من خلال بابا الإسكندرية، بل يثبت التاريخ أن الكنيسة هي التي بدأت تقويم الشهداء، الذي بني على أساس التقويم المصري القديم، مع السنة الأولى للإمبراطور دقلديانوس وقد أخذ بهذا التقويم سياسيًا في كل القطر المصري.

ونجد كيف أن الأباطرة وبعدهم الحكام العرب كانوا يلجأون إلى البابا لمخاطبة الأقباط، فمثلًا مع البابا أثناسيوس الرسولي (265 م - 373 م) والذي عاصر 16 إمبراطورًا رومانيًا ولما كان يعرف عن بابا الإسكندرية عن موالية شعبه إليه ليس روحيًا فقط بل في كل أحوالهم فقد لعب على ذلك غالبية الأباطرة؛ فمثلًا فى سنة 350م قُتل الملك قنسطنس على يد ماجنينتيوس، وقد أراد هذا الأخير الاستيلاء على الشرق فأرسل منشورا إلى مصر يدعوها فيه للتمرد على القيصر وكان يريد الاستيلاء عليها ولكن البابا أثناسيوس بحكمته في الحال أوصى الشعب بقبول الإمبراطور الجديد.

ويتكرر هذا المشهد كثيرًا مع البابا أثناسيوس الرسولي من مطاردة الأباطرة له لأنه ليس فقط الراعي الروحي للشعب القبطي بل هو كان مفتاح كل مصر في ذاك الوقت.

وأيضاً يذكر التاريخ النزاع الطويل بين حاكم مصر الروماني والبابا كيرلس عمود الدين وكيف كان البابا كيرلس هو مفتاح الاقباط (412 م - 444 م).

وأيضُا مع البابا أنسطاسيوس (605 م - 616 م) يذكر التاريخ أن الأمبراطور رأى التفاف الأقباط حول البابا، ولذك علم أن المدخل هو عن طريق البابا.

ويذكر الأستاذ علي أحمد نجيب في كتابه "كتابات في المجتمع والاقتصاد، مصر" في صفحة 21، أن "مهمة الإمبراطورية الرومانية كانت أن تخضع الكنيسة القبطية وتنزع عنها دورها القائد في العالم المسيحي"، ولذلك كان ينظر الأباطرة إلى بابا الإسكندرية كزعيم روحي وسياسي للأقباط.

وفي عصر البابا مرقس الثامن ومع الاعتداء الفرنسي على مصر سنة 1798م خرج بعض المخالفين للكنيسة وغير الوطنيين ورحبوا بالاستعمار الفرنسي، ما أدى إلى نشوب فتنة طائفية وحرق كنيستين ولكن حكمة البابا مرقس الثامن ويتبعه كل الأقباط بشجب هذا الاستعمار كجزء من نسيج الوطن تصدت لهذا الاستعمار.

وفي سنة 1840م وفي عهد البابا بطرس السابع تم التنكيل واستشهاد القديس سيدهم بشاي على أيدي المتعصبين بدمياط، وقد تم انتشار هذا الخبر في أنحاء العالم الخارجي وأظهرت بعض الحكومات استعدادها لحماية الأقباط بمصر، ولكن البابا بطرس السابع رفض تماماً مبدأ تدخل العالم الخارجي في شئون الوطن الواحد.

وأما البابا كيرلس الرابع أبو الإصلاح فقد خدم الوطن مصر دبلوماسياً سنة 1856م عندما أرسله الخديوي سعيد إلى الإمبراطور تواضروس الثاني إمبراطور أثيوبيا على رأس وفد دبلوماسي لزيارة إثيوبيا سياسياً وقد نجحت هذه الزيارة في توطيد العلاقات، وكافئه الخديوي سعيد، بإهدائه مطبعة الكنيسة القبطية لطبع الكتب القبطية الأرثوذكسية.

وأما البابا ديمتريوس الثاني (1862 - 1874 م) فقد ربطته علاقات طيبة جداً مع الخديوي إسماعيل، الذي دعاه دبلوماسياً لحضور افتتاح قناة السويس ومقابلة السلطان العثماني عبد العزيز، ثم ساعده الخديوي إسماعيل بالأرض والمال لإنشاء الكلية الأكليريكية.

وأما البابا كيرلس الخامس (1874 - 1927 م) الذي جلس على الكرسي المرقسي لأكثر من خمسين عاماً فقد تصرف بحكمة سياسية نحو بلدنا مصر، حيث إنه عاصر أشد الحركات السياسية في تاريخ مصر، وخالف الرأي سياسياً مع رئيس الوزراء بطرس باشا غالي، وعاصر تحول مصر من الخلافة العثمانية إلى الاحتلال الإنجليزي، ثم الثورة الشعبية بقيادة مصطفى كامل باشا، ثم الحرب العالمية الأولى، وثورة سعد زغلول سنة 1919 والتي كان يخطب وقتها الكهنة في الجوامع ويعظ الشيوخ المسلمين بالكنائس، وقد نجح قداسة البابا بالحفاظ على روح الوحدة في مصر.

ثم أتى البابا مكاريوس الثالث، حيث عاصر أشد الخلافات حول قانون الأحوال الشخصية ومع المجلس الملي العام حتى أنه ترك مقر كرسيه بالأزبكية واعتزل بحلوان، حتى أن رئيس الوزراء أحمد باشا ماهر تدخل لرجوع البابا ونجح قداسة البابا في إرساء قانون الأحوال الشخصية في ذلك الوقت كما تراه الكنيسة.

أما البابا كيرلس السادس فقد تصرف بكل حكمة وحب في علاقته بالرئيس جمال عبد الناصر ووطد علاقة الكنيسة بالرئيس عبد الناصر، ونقل مقر كرسيه إلى الكاتدرائية المرقسية الكبرى الجديدة بالعباسية والتي افتتحها الرئيس عبد الناصر، وعلى صعيد آخر، احتضن الأمبراطور الأثيوبي هيلاسيلاسي ولعب دورا هاما في علاقة مصر باثيوبيا.

أما عهد قداسة البابا شنودة الثالث (1971 - 2012 م) فقد شاهد حركات سياسية كثيرة ومنها زيادة حركة الإخوان المسلمين السياسية، التطرف العنصري الديني، كثرة النزاعات الطائفية، وغيره..  وكان لقداسته رؤية سياسية على أولاده بالنسبة للاحتلال الصهيوني لفلسطين ومنع الأقباط من زيارة القدس في ظل الاحتلال الصهيوني لها. وعاصر قداسته فترة الرئيس الأسبق مبارك والعلاقة القوية بين مصر والولايات المتحدة وفيها عاصر الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر، ثم ريجان ثم بوش الكبير ثم كلينتون ثم بوش الصغير ثم أوباما، ومؤازرة أوباما لانتشار الحركات الإسلامية السياسية في الشرق الأوسط التي يتزعمها الإخوان المسلمين. ثم في آخر حياة البابا شنودة عاصر ثورة 25 يناير 2011م والتي بعدها تنحى مبارك عن رئاسة مصر.

ثم اختارت العناية الإلهية قداسة البابا تواضروس الثاني ليكون بابا الإسكندرية المائة والثامن عشر وتم تجليسه على كرسيه في 18 نوفمبر سنة 2012. وقداسته يتسم بالوطنية وحبه الشديد لمصر ولوحدة شعب مصر وقد عاصر ثورات وتقلبات سياسية دعته أن يناشد هذه الوحدة في وسط كل هذه الأعاصير.

وتجليس قداسته جاء في الشهر الخامس تقريباً لعهد الرئيس المعزول محمد مرسي. ثم عاصر قداسته ثورة 30 يونيو 2013 والتي تم فيها عزل محمد مرسي ثم تولي عدلي منصور حكم البلاد كرئيساً مؤقتاً لمصر.

ثم عاصر انتخاب الرئيس السيسي رئيساً شرعياً للبلاد في مايو 2014 في وقت تزعمت فيه الولايات المتحدة قلب الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وتزعمت اتهام السيسي بالقيام بانقلاب عسكري للإطاحة بمحمد مرسي. وذلك الاتهام الذي جرت ورائه الولايات المتحدة وحلفائها من الغرب قد أدى إلى تعليق المعونة الأمريكية للحكومة المصرية لعدة أشهر وأرادوا أن يعزلوا حكومة مصر عن المجتمع الدولي، وأظهر ذلك مدى تأثير الإخوان المسلمين ولجوئهم إلى بعض الحكومات الغربية طلباً للاستغاثة التي هي بمثابة خيانة للوطن.

وفي ظل ذلك وقف قداسة البابا تواضروس الثاني بكل شجاعة وقوة وخلفه الكنيسة والأقباط لحماية مصر من هذه الفتنة لعزل حكومة مصر.

ومنذ جلوس قداسته على كرسي مارمرقس وهو يستخدم حكمته ووطنيته وومناداته بأن المحبة تصنع المعجزات للحفاظ على وحدة شعب مصر، وعندما خرجت ثورة 30 يونيو 2013 وتم عزل الرئيس مرسي في 3 يوليو 2013 وقف قداسة البابا بكل قوة لمساندة جيش مصر وإرادة شعب مصر، وخرجت الولايات المتحدة بمقولة "الانقلاب العسكري بمصر" لعزل مصر دولياً وارهاقها مالياً، فناشد البابا أبنائه بالمهجر لشرح الوضع الصحيح كلٍ في بلده خاصة بالولايات المتحدة، وقام الكثير من الأقباط بالمهجر ومعهم الكثير من المصريين المسلمين المهاجرين بالولايات المتحدة، الكل كشعب مصري واحد، لمساندة بلدهم وتمت مقابلات عديدة على كل المستويات مع مسؤلي الحكومة الأمريكية وأعضاء الكونجرس الأمريكي، والمحصلة كانت أن الولايات المتحدة تقبلت رئاسة الرئيس السيسي قائداً للبلاد.

وعندما شهد الشعب القبطي أحداث حرق مئات من الكنائس وممتلكات الأقباط في كل أنحاء مصر الذي بدأ في يوم الأربعاء 14 أغسطس 2013، رد قداسته بكل حكمة عن ثلاثة شائعات ضد الأقباط، شائعة أن الكنيسة القبطية غير وطنية، فوقف قداسة البابا وقال مقولته الشهيرة "الكنيسة القبطية كنيسة وطنية حتى النخاع" وأثبت ذلك من عبر تاريخ الكنيسة، وشائعة أن "الكنائس بها أسلحة" وقال قداسته "لم نسمع عن قبطي واحد يستخدم سلاحاً"، وشائعة "الأقباط يستقوون بالخارج"، فقال قداسته بكل قوة "رغم ما تعرض له الأقباط من ترويع وتخويف واغتصاب وخطف لم نستقو بأحد إلا إخواننا المصريين في داخل الوطن، في حين نرى الآخرين يستقوون بالدول الخارجية لكي تنقلب على وطننا العزيز! وما ابشعها خيانة!" (انظر مجلة الكرازة عدد 21 يونيو 2013).

وقد استمر قداسة البابا باستخدام وطنيته وحكمته ومحبته لمصر ولكل شعب مصر مسلميها ومسحييها وهو يعلم أن المحبة هي فقط الوسيلة الوحيدة التي سوف تلم شأن كل أطراف أولاد الوطن الواحد حيث يقول قداسته: "أن المصريين يعيشون معاً مسيحيين ومسلمين كأسرة واحدة حول نهر النيل ولذلك تتميز طبيعة الشعب المصري بالوسطية، لا إلى العنف".

وعندما يطلب قداسة البابا من أولاده إظهار حبهم في استقبال السيسي في زيارته للولايات المتحدة، فذلك يتمشى مع أربعة أعمدة أساسية متأصلة في فكر قداسته لحمل كل شعبه وسط هذه المحن وهي:

1-  إظهار الروح الوطنية المتأصلة في قلب قداسته من أجل الشعب المصري كله مسلميه ومسيحييه.

2-   استخدام الحكمة النازلة من فوق من عند أبي الأنوار في كل الأوقات لأن الرب وحده هو الذي ينير البصيرة عند طلب الحكمه منه.

3-   تقديم المحبة في كل حال لأنها لا تسقط أبداً كما وعد بها الكتاب المقدس. ولأنها وعد الهي، فهي لا تسقط أبداً ولا تعود فارغة أبداً.

4-  الرجاء الذي يرى به قداسة البابا كل خير وصلاحية في مستقبل مصر ومستقبل شعبها جميعا، وهذا الرجاء هو من أساسيات المسيحية.

بهذه الأعمدة الأربعة مرت الكنيسة على مر العصور بقيادة آبائها البطاركة لبر الأمان إلى يومنا هذا، وبهذه الأعمدة الأربعة يواصل قداسة البابا تواضروس الثاني صفحات جديدة في التاريخ منها أن قداسته هو:

-  البطريرك الذي في عهده يتم وضع بروتوكول لزيارة رئيس الدولة المصرية لقداسة البابا في قداسات الأعياد، شيء جديد على الكنيسة وتاريخ الكنيسة ووضع الكنيسة في وسط الشعب المصري ككل.

-  البطريرك الذي في عهده يفتخر رؤساء الدول الخارجية ورؤساء حكوماتها بل وسفرائها بزيارة قداسته بالمقر البابوي.

-  البطريرك الذي في زيارته إلى المملكة المتحدة تستقبله ملكة إنجلترا.

-  البطريرك الذي في عهده يدخل ولي عهد المملكة العربية السعودية المقر البابوي بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية ليتقابل مع قداسة البابا.

-  البطريرك الذي في عهده يتم تقديم قائمة شاملة بكل الكنائس التي ليس لها ترخيص في كل القطر المصري ويتم إعطاء الرخص لها بالتوالي، وما زالت هذه العملية مستمرة إلى وقتنا هذا، مع العلم أنه لم يتم إيقاف الصلوات في هذه الكنائس.

كل هذا يبارك فيه الرب على أساس الأعمدة الأربعة لقداسته: "الوطنية والحكمة والمحبة والرجاء".

ولذلك لا يصح أن يقال إن قداسة البابا تواضروس الثاني يقوم بزيارة الولايات المتحدة تمهيدا لزيارة الرئيس السيسي، لأن هذه ليست حقيقة بل من الشائعات التي يروجها لمن في مصلحتهم كسب شعبية وكسب لقمة العيش على حساب اصطدام البابا بالدولة، والأقباط بالمسلمين، ولأن صفحتهم الإعلامية فارغة ويعملون على حشوها بالأقاويل من أي نوع.

زيارة قداسة البابا قد تم الأعداد لها منذ سنتين وتم تأجيلها من سبتمبر السنة الماضية إلى نفس الشهر سبتمبر من هذه السنة، والرئيس السيسي سيحضر اجتماعات الأمم المتحدة في نفس الشهر سبتمبر، ويعتبر هذا الوقت من السنة أفضل الشهور للقيام بزيارة رعوية لعدة أسابيع لأنها أطول فترة بين الصيامات والطف مناخ طقسي لزيارة الولايات المتحدة، ولذلك أيضا كانت زيارة قداسته سنة 2015 في نفس الوقت من السنة.

الرجاء امتحان الأفكار والأقاويل وطلب الحكمة والتصرف بالمحبة في كل الأقاويل والأحداث والتحلي بالرجاء الذي يبعث روح الأمل في مستقبل مشرق.

ربنا يبارك في كل عمل يقوم به قداسته لأنه رمزاً للكنيسة وهو الإنسان الوحيد الذي أشار إليه الرب أن يجلس على عرش مارمرقس ليقود شعبه، لينير الرب لنا جميعاً لنعيش بالوطنية والحكمة والمحبة.


مواضيع متعلقة