خالد الصاوى يروى حكايته مع «الفاجومى»: كان أبويا الروحى

خالد الصاوى يروى حكايته مع «الفاجومى»: كان أبويا الروحى
حكاية خالد الصاوى، «الفاجومى» الصغير الذى تجرّأ وجسّد شخصية أحمد فؤاد نجم، مع «الفاجومى» الكبير بدأت منذ أن كان فى العاشرة من عمره، لذا فهى -كما يقول- حكاية العمر كله.
يبدأ «خالد» حديثه عن أحمد فؤاد نجم قائلاً: أنا من مواليد 1963، وفى عام 1973، ونحن ننتظر المعركة الفاصلة فى حرب أكتوبر، كان عمرى 10 أعوام، وكنا نسمع بالمدرسة وبالشارع وبالبيت أغانى من النوع الحماسى، الذى يهدف إلى التعبئة ودعم الوطنية، يومها وجدت أبى يحضر شرائط كاسيت غريبة بدأت فى سماعها، فوجدتها للشيخ إمام وأشعار أحمد فؤاد نجم، ودون أن أشعر بدأت فى السير فى اتجاه هذين الرجلين، ووجدتهما يملآن أذنىَّ وعقلى ووجدانى، ومرت الأعوام وأنا على علاقة عشق بهذين الرجلين، خصوصاً أننى أعرف أنهما يتعرّضان للسجن وينتقدان من يشعران أنه يستحق النقد، دون خوف أو حسابات، وهكذا كبرت على حبهما واحترامهما وحفظت عن ظهر قلب أشعار «نجم» بصوت الشيخ إمام، وبدقة أكثر عشقت تمردهما الفطرى، لكنى لم أكن قد التقيت بأىٍّ منهما بعد.[FirstQuote]
وفى عام 1997 كنت أحضّر لشخصية جمال عبدالناصر فى فيلم يحمل اسمه، كتب السيناريو له إيهاب إمام، ابن الكاتب عبدالله إمام، وقال لى «إيهاب» وقتها: «تيجى نقابل الفاجومى؟» فقلت له: «أتمنى ذلك»، وكان أول لقاء بيننا فى المقطم، حيث يسكن فى المساكن البسيطة التى سكنها المتضررون من زلزال 92، وكانت مساكن بسيطة جداً، وكان انطباعى الأول هو الاندهاش، وتساءلت: كيف يسكن رجل فى حجم وقوة وثورية وعظمة «نجم» هنا؟ كيف لرجل وقف ضد السلطة والديكتاتورية فى كل العصور، بدءاً من «ناصر» لـ«السادات» لـ«مبارك»، أن يعيش بهذه الشقة، تلك الحياة البسيطة جداً؟ بكيت للحظات ومسحت دموعى أمام ابتسامته وقوته وفطريته المذهلة، إذ كان ساخراً ضاحكاً رغم كل شىء، فأخذنى معه أيضاً إلى تلك الحالة، ونسيت كل شىء وجلست معه، وطرحنا أمامه فكرة أن أقوم بشخصية جمال عبدالناصر، فوجدته يستفزنى بقوله: «بقى انت بقى اللى هتعمل عبدالناصر ياض انت؟»، فأدركت منذ أول لحظة أنه يستفزنى لأخرج ما بداخلى، وأكون واضحاً لدرجة تجعله يرانى دون أى تصنّع، فضحكت وقلت له: «أيوة أنا اللى هاعمل عبدالناصر ومرعوب يا عم أحمد.. دا أحمد زكى عمل عبدالناصر، أطلع أنا إيه عشان أعمله، ولا شكلى ولا ستايلى شبه ناصر، أعمل إيه؟ بس لا يمكن أسيب الشخصية دى أنا هاموت وأعملها عشان تتسجل فى تاريخى».. وسكت «نجم» قليلاً ثم قال لى: «هو التمثيل شكل ياض انت، التمثيل ده روح مش بالشبه يعنى، لو عرفت تجيب روح عبدالناصر اعمل الفيلم وماتخافش من الشكل، حس بعبدالناصر عشان الناس تحسه وانسى الشكل والمنظر»، وهنا شعرت أنه ليس مجرد شاعر عبقرى أعشقه، وبدأت مشاعرى تتحول تجاه كونه أباً روحياً لى، وكم ارتحت بعد كلماته واستجمعت نفسى وتشجعت وقمت بالدور.[SecondImage]
ويضيف «الصاوى»: ومرت الأيام وأصبحت علاقتنا رائعة وأصبح أبى وصديقى وحبيبى المتمرد، وذات يوم سألته: كيف حافظت على استقلاليتك بهذا الشكل؟ كيف استمر تمردك واضحا عبر العصور والرؤساء؟ لماذا لم تنضم لأى حزب سياسى رغم أنك يسارى الأداء والنزعة والتوجه؟ كيف حافظت على تلك العصامية وبناء نفسك بنفسك، ورغم شهرتك ودخولك وسط طبقات أخرى لم تدخل أى طبقة، ولم تتأثر أو تتمسح فى طبقات تنزع عنك تلك البساطة؟
وهنا رد علىّ «نجم» برد واحد: «يااااه إيه ده ياض يا خالد، ده انت طلعت بتفهم»، وكانت سعادتى لا توصف بهذه الكلمات العفوية التى لخص فيها رأيه فى شخصيتى، حتى إنى نقلت لوالدى ما قاله «نجم» عنى، فضحك وكان فى شدة السعادة.
ويتابع: مرت أيام وسنوات أخرى وظلت علاقتنا مستمرة، وكنا فى عامى 2006 و2007 أثناء بدء حركة «كفاية» ثم حركة «كتاب وفنانين من أجل التغيير»، وبدأت بعض القوى الثورية فى التجمع والالتقاء، وكان «نجم» حاضراً بشكل دائم، وكانت الاجتماعات شديدة السخونة والحدة، وذات مرة احتدت المناقشة بينى وبين مجموعة من الحاضرين، فقال «نجم» صارخاً: «ما تدوا فرصة للواد الجميل ده يتكلم»، فضحك الحاضرون واستكملنا الحوار بهدوء أكثر بعد أن بدّد «نجم» الحدة والسخونة بسخريته وخفة ظله.[ThirdImage]
واجتمعت به ذات مرة فى بيته، وكنت وقتها قد قدمت عدة أشعار فى مسرحية «اللعب فى الدماغ»، ففوجئت به يقول لى «قوللى شوية شعر يا واد»، فقلت له كيف أقول الشعر فى حضرتك يا نجم الشعر؟ لكنه أصر واضطررت إلى إلقاء بعض الأبيات، فأعجبته، وكان هذا الكلام أجمل ما سمعته فى حياتى. وتحدثنا ذات مرة عن مصر وقلت له: لا تتهمنى يا عم نجم بالجنون لكن دعنى أصارحك بشعور ما، أشعر أن هناك تغييراً كبيراً سيحدث فى مصر، وسيكون حدثاً أضخم من الثورة الفرنسية، وإذا به يقول لى: «أنا كمان حاسس كده، العالم كله هيتغير، وإن ماحصلش من مصر مش هيحصل، مصر هتتغير خالص قريب، وكان ذلك قبل ثورة 25 يناير».
وبعد الثورة وعندما فكرت فى تجسيد شخصيته فى فيلم «الفاجومى» ذهبت إليه، وقلت: أريدك فى موضوع مهم، لقد حلمت بتقديم دورين فى حياتى، وأن يكونا فى السجل الفنى فى تاريخى، حتى إن لم أوفّق فيهما أو انتقدت بسببهما، لكنى مصمم عليهما، ولن أنتظر حتى أصبح فى عمر السبعين لأقول لنفسى لماذا جبنت عن تجسيد هذين الدورين؟ وقد قدّمت دور «عبدالناصر» وهو أحدهما، ولم يتبق إلا دورك أنت يا عم «نجم»، فما رأيك؟ أعرف أنى شكلاً لا أشبهك، فأنت رجل منحوت فى صخر السنين شكلاً ومضموناً، ومهما حاولت سيكون هناك اختلاف بينى وبينك، لكن لا تحرمنى من المحاولة، فرد قائلاً: «التمثيل بالنسبة لى مش واد حليوة وشكل ومنظر، التمثيل روح والّا ناسى لما قلت لك كده من سنين على شخصية عبدالناصر، ياللا روح اعمل الفيلم، إنت أكتر واحد تقدر تعمل شخصيتى من جوه، إنت مذاكرنى كويس وحافظنى، ولو جبت روحى من جوه يبقى مش مهم الشكل». فجسدت شخصية «نجم» وقصة حياته فى فيلم «الفاجومى»، وكنت مرعوباً يوم العرض الخاص للفيلم، وخفت كثيراً من رد فعله، أو من أن يجاملنى أو ينتقدنى ويحزن من أنى لم أفلح فى تجسيده، لذا ابتعدت كثيراً عنه أثناء عرض الفيلم، ولاحظت أنه كان يعبّر عن إعجابه أو انتقاده بشكل فطرى، فيضحك فى مشاهد، ويعلو صوته فى مشاهد أخرى تعبيراً عن إحساسه بالملل، لكنى قبلت كل تعبيراته واستعددت لسماع رأيه، وإذا به بعد العرض الخاص يصيح فى الجميع ضاحكاً: «فين الواد ده؟»، وضحك الجميع، وقابل أمى وأبى وعائلتى، وكانت من أهم أمنيات عائلتى لقاء هذا الرجل، وإذا به يقول لأبى: «ابنك شاعر جامد قوى» فانفجر أبى فى الضحك، وكان هذا من أغرب وأطرف المواقف التى حدثت لى فى حياتى.
ويختم «الصاوى» حديثه قائلاً: رحل «نجم» صباح الثلاثاء الماضى، وكان يوماً من أصعب أيام حياتى، لم أتمالك نفسى، ولم أستطع إلا الصمت، وإهداء روحه جملة واحدة «رحل صوت من لا صوت له»، ويسعدنى ويشرفنى أنه كان يقول لى إنه أنجب ثلاث بنات وولدين، فى إشارة إلىّ أنا وميشيل غالى الذى وهب نفسه للفاجومى طوال حياته.[SecondQuote]
وكل ما أتمناه هو أن يأخذ «نجم» حقه، فهو شاعر ومناضل وثورى، ولكن آن الأوان ليقوم الشعراء والأكاديميون بالاهتمام بشعره بشكل مهنى، وليحللوا النصوص بعيداً عن تأثير الصوت الثورى الذى طغى على أشعاره ووهبها روحاً مختلفة، يجب الآن أن نرى روعته الشعرية ونقدرها، كما أحاول أن أكرّمه فى ذكرى الأربعين، فاتصلت بالمطرب على الحجار وبعض المسئولين لنقيم له يوماً يتناسب مع روحه الساخرة، إذ كان يكره الحزن، وأعتقد أنه يضحك لنا من السماء، ويقول ابتسموا فقد عشت عمرى أكره الأحزان، ولأجل روحه لا بد أن نبتسم ونستلهم منه روحه الساخرة والوطنية والثورية والعاشقة للتغيير.