الأسرة والمجتمع بين ما كان وما أصبح
- أحياء القاهرة
- أسوار المدارس
- أفراد الأسرة
- أمينة صبرى
- أوقات الفراغ
- الأسرة والمجتمع
- الإذاعة المصرية
- البرنامج الإذاعى
- الذوق العام
- السنة الأولى
- أحياء القاهرة
- أسوار المدارس
- أفراد الأسرة
- أمينة صبرى
- أوقات الفراغ
- الأسرة والمجتمع
- الإذاعة المصرية
- البرنامج الإذاعى
- الذوق العام
- السنة الأولى
استمتعت بسماع إحدى حلقات البرنامج الإذاعى القديم «حديث الذكريات» للإذاعية القديرة أمينة صبرى، التى استضافت فيها الفنان عبدالوارث عسر، أحد عمالقة الفن والإلقاء فى زمن الفن الجميل، تلك الفترة التى بتنا نترحم عليها وكأنها أصبحت ضمن تراث مقتنياتنا الثمينة الراقية التى آلت إلينا فاكتفينا بالحفاظ عليها وعجزنا عن تكرار مضمونها، وذلك فى رحلة للتعرف على ظروف النشأة التى أنتجت مثل تلك الشخصية المثقفة التى تركت بصمات فى تاريخ السينما والإذاعة المصرية، والتى استوقفتنى لمعرفة كيف كان دور الأسرة والمجتمع كالمدرسة والحى فى بناء شخصية الفرد وكيف أصبح.
تحدّث الفنان عبدالوارث عسر عن نشأته فى حارة درب الطبلاوى بحى الجمالية، أحد أحياء القاهرة الشعبية، فى نهايات القرن العشرين، وكيف كان تعليم الأطفال يبدأ بدخول الكتّاب، حيث يذهب سيدنا ومعه طابور من الأطفال من طلاب الكتّاب ويقرأون الفاتحة بصوت جماعى أمام بيت ذلك الطفل الجديد ليأخذوه فى موكب يشبه الزفة، فى مشهد تتمنى من خلاله نساء الحى أن يتكرر مع أبنائهن يوم ذهابهم للكتّاب لتلقّى العلم، حيث كان الطالب يحفظ فى السنة الأولى الحروف الأبجدية وسورة الفاتحة وجزء عم كاملاً كتابة وقراءة وحفظاً، وكيف كان الشيخ فى الكتّاب يهتم بتعليم طلابه قواعد القراءة والكتابة والنطق السليم، وكيف كانت المدرسة، بجانب وظيفتها الأساسية فى تربية وتعليم الطلاب، تهتم باكتشاف وصقل مواهبهم، فكانت تستعين بالشيخ سلامة حجازى، صاحب الفرقة المسرحية الشهيرة فى ذلك الوقت، ليقوم بنفسه بتدريب وتعليم الطلاب الموهوبين أساسيات فن التمثيل والإلقاء، وكيف لقامة كبيرة مثله فى ذلك الوقت -كونه أشهر فنانى عصره- يهتم بتبسيط المعلومة للأطفال وتعريفهم بكيفية الإحساس بالكلمات والجمل وترجمة ذلك الإحساس إلى أداء.
أما المقهى -أو القهوة كما يقولون- فى ذلك الوقت فكان مكاناً للتثقيف يشبه سوق عكاظ، حيث يوجد من يسمى بالمحدّث وهو من يحكى القصص -أو من يقوم بدور الراوى- الذى كان يقرأ القصص الشعبية مثل عنترة بن شداد وأبوزيد الهلالى، وكيف كانت تلك القصص محل اهتمام أهالى الحى، وكيف كانت المقاهى تُتخذ، فى بعض الأحيان، مقراً لحل المشكلات، وتجمعاً للمثقفين. أما الآن فكيف أصبحت مقراً رسمياً للمتسكعين وشباب العاطلين، يتغير اسمها تبعاً لطبيعة المستويات الاجتماعية التى ترتادها، ففى الحى الشعبى، أو بعض الأماكن التى تتميز بمستويات اقتصادية منخفضة، ما زالت تحتفظ باسم القهوة، أما فى الأحياء المتوسطة أو الراقية فيطلق عليها «كافيه»، فى استسلام واضح ولا مبالاة صريحة لطمس وتغيير الهوية المصرية والعربية، حتى على مستوى المسميات والعادات، وكيف تبدلت أهداف وجود مرتادى تلك المقاهى أو الكافيهات من التجمع مع الأصدقاء لقضاء الأوقات بعد انتهاء من العمل، للتسلية ولعب الدومينو والطاولة، أو لمناقشة مشكلات الحى وطرح حلول لها، أو للقيام بعمل واجبات جماعية كمساندة لأحد أبناء الحى من المرضى أو غير القادرين على تجهيز بناتهن أو ما شابه ذلك، إلى البحلقة فى اللى رايحة واللى جاية إذا جاءت جلسته على أحد الأرصفة التى احتلتها المقاهى بالقوة، والتى غالباً أصبحت فى توجه جديد تحتل فى أماكنها حرم المدارس الإعدادية والثانوية مرحبة بتزويغ الطلاب خلال اليوم الدراسى لتفتح أبوابها موفرة لهم الواى فاى لاستخدام الإنترنت، أو تعرض على شاشاتها قنوات الرقص والأغانى الهابطة تحت مسمى الغناء الشعبى. تلك القنوات التى غابت عن الرقابة، وعن محاسبة المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام لبثها محتويات مسفّة تهبط بالذوق العام وتفتقر للفن الراقى، وتوفر نسبة غير قليلة من تلك المقاهى بعض أنواع المخدرات وتبيح تعاطيها لمرتاديها علناً، فهى توفر المكان الآمن، أما فى المساء فتمتد جلسات تلك المقاهى والكافيهات إلى أسوار المدارس فيجلسون تحت شعارات «بالعلم ترقى الأمم»، و«مدرستى جميلة ونظيفة ومتطورة»، تلك العبارات المكتوبة على أسوار المدارس، ليشربوا الشيشة وبعض السجائر المنتفخة بأنواع من المخدرات ويشنفوا آذان المارة بأقذع الألفاظ دون مراعاة لمرور فتيات أو سيدات، فلا حرمة للشارع ولا مراعاة لحق الجار أو للآداب العامة.
أما الأسرة التى كانت تفرض نظاماً للحياة وأسلوب العلاقات داخل البيت يعتمد على وضع قواعد حاكمة ملزمة للجميع، كيف كان الاحترام هو القاعدة الأساسية للتعامل بين أفراد الأسرة، كيف كان الحرص على الاجتماع فى الوجبات الثلاث، وإن كانت الأسر من أبناء الطبقة المتوسطة فغالباً ما تحرص على وجود المكتبة، فكانت أوقات الفراغ يقضيها الأبناء فى قراءة تلك الكتب والروايات أو فى قراءة المجلات، وكانت ماكينة الخياطة من الأشياء الهامة داخل البيت، حيث تحرص غالبية الأمهات اللاتى يُجدن الخياطة وأعمال الإبرة على تفصيل الملابس المنزلية لأفراد الأسرة، وإعداد المفارش والتابلوهات الكانافاه، فتتعلم الفتيات فى فترة المراهقة، بجانب التعليم بالمدارس، العديد من مهارات فنون التفصيل والطهى التى تعدهنّ لتحمُّل المسئولية عند وصولهن لسن الزواج.
تحدّث الفنان عبدالوارث عسر عن حرصه وهو طالب فى المدرسة على قراءة كتب الأغانى والأمالى والعقد الفريد ومجمع الأمثال، والقصص العربية مثل حرب البسوس وعنترة، والتاريخ العربى للطبرى وابن الأثير، ليشكل عقليته ويُثرى ثقافته بنفسه.
هكذا كانت تُقضى أوقاتهم فى بناء الأسرة للأبناء، وبناء الأبناء لأنفسهم متسلحين بالعلم والأخلاق والوطنية، متمسكين باستماتة بهويتهم المصرية والعربية، مدركين لما يمتلكون من تراث هائل من القيم والعادات، مطلعين على ثقافة الغرب، متخذين منها ما يلائم المجتمع المصرى، رافضين لكل محاولات طمس الهوية المصرية تحت عنوان التمدن والتحضر.
هذه الكلمات ليست دعوة للعودة بالزمن للوراء ورفض كل ما هو جديد ومتطور، وإنما هى جرس للتنبيه من أجل إعادة الحسابات مرة أخرى لاستعادة الثوابت التربوية والدينية والأخلاقية التى أنتجت أجيالاً من العظماء والنابهين والوطنيين الذين كانوا يدركون قيماً كالوقت والعلم والعمل والإتقان، ويدركون قيمة الوطن، تلك القيم التى خلقت مجتمعاً قوياً متماسكاً عصياً على من يهدف إلى تفكيكه وتدميره.