الاغتيال الثانى لـ«الملاك»!!

جمال طه

جمال طه

كاتب صحفي

«الملاك» كتبه المؤلف الإسرائيلى «يورى بار چوزيف» 2010، عن أشرف مروان.. وصفه بالجاسوس الذى أنقذ إسرائيل، تُرجِم ٢٠١٧، دون تعليق منا، فتحول لفيلم سينمائى، تعرضه شبكة نيتفلكس منتصف سبتمبر، قبل طرحه بالأسواق.. أجهزة المخابرات تصنع سمعتها، وتغسل سقطاتها، عملها يعتمد على تعاون أجانب ضد أوطانهم، تجاوبهم يتوقف على سخاء التمويل، وسمعة الجهاز فى تشغيل عملائه، لأن ابتلاعه لعميل مزروع يفقده الهيبة، ويغرى بالاستهانة، فيتجرأ العملاء على دس معلومات كاذبة، أو بيعه لجهاز آخر.. الموساد يسعى لغسيل سمعته، على حسابنا.

كتاب شمعون منديس، ضابط المخابرات العسكرية خلال حرب أكتوبر 73، «جهاد السادات»، انتقدته الرقابة الإسرائيلية، لأنه شرح كيف تولى السادات ملف زرع مروان داخل الموساد منذ 1969، ونجح فى إقناعهم بأن لديهم «إيلى كوهين» جديداً، ثم فوجئوا بالحرب، لأن ما قدمه من معلومات كانت مضللة.. المؤرخ الأمريكى هوارد بلوم فى كتابه «عشية الدمار»، الصادر 2003، كشف التفاصيل، مروان سافر إلى لندن تحت ساتر استكمال دراسته العليا فى الكيمياء 1969، وكجزء من قصة الساتر اتجه للشاعرة سعاد الصباح قرينة نائب حاكم الكويت لطلب دعمها المالى بحجة عدم كفاية مخصصاته المالية كمبعوث، وذلك تمهيداً لتوفير مبرر عند توجهه للموساد.. عندما بدأت عملية الاقتراب لم يتوجه للقنصلية الإسرائيلية، ولا لطيران العال، بل إلى عيادة الطبيب إيمانويل هربرت الذى قام بدور همزة الوصل بين الملك حسين وإسرائيل، إجراء مدروس ضمن خطة زراعة عنصر مخابرات محترف.. قدم ملفاً تضمن محضر اجتماع السادات والقادة السوفيت مارس 1971، لطلب طائرة ردع تخترق العمق الإسرائيلى، ليضمن إقناعهم بجديته، ويؤكد جدية مصر فى الحرب، وسعيها لامتلاك سلاح ردع، ما قد يشجع على تسوية سياسية، استهدفها السادات.

علاقة مروان بالموساد كانت موضع خلاف بعد حرب 73، بين رئيسه زڤى زامير، وإيلى زعيرا رئيس المخابرات العسكرية «أمان».. زعيرا نفى ولاء مروان لإسرائيل، وأجل نشر مذكراته عن الحرب حتى 1991، لتسقط القيود الأمنية عن وثائقها، فيوثق آراءه.. أكد عدم أخذ معلومات مروان عن شن الحرب فى السادسة من مساء 6 أكتوبر مأخذ الجد، لسابق إبلاغه بمواعيد وهمية، فى أكتوبر 72، ومايو 73، وفى كل مرة كانت تعبئة الاحتياط تكلف المليارات.. وصف مروان بالجاسوس المزدوج، المدسوس من المخابرات المصرية للتلاعب بإسرائيل، ولخص دوره فى خطة مصر للخداع الاستراتيجى: «مروان قدم إلينا معلومات مهمة، حتى جاء وقت الحرب، فأطاح بنا تماماً».. أهارون بيرجمان المؤرخ الإنجليزى اليهودى أكد فى كتابه «تاريخ إسرائيل»، أن أهمية مروان لم تكن فى قيمة المعلومات العسكرية التى يقدمها، بل فى مجرد وجوده داخل دائرة صنع القرار المصرى!!، وأهدى نسخة من كتابه «حروب إسرائيل»، إلى مروان تحمل الإهداء التالى «إلى أشرف مروان بطل مصر».. هكذا حسم بوضوح قضية ولاء مروان لصالح مصر.

رؤية زعيرا أزعجت الموساد، خاصة أنها وجدت صداها فى كتابات بيرجمان والباحث إفرايم كاهانا وغيرهما، مما دعا زامير إلى رفع دعوى قذف ضده أمام المحكمة العليا الإسرائيلية 2004، اتهمه بالكشف عن هوية مروان.. صدر الحكم فى 25 مارس 2007 مؤكداً أن مروان كان جاسوساً لإسرائيل!!، وأدان زعيرا لتسريب هويته لأشخاص غير مخول لهم، إعلان الحكم فى 14 يونيو، بعد 13 يوماً من وفاة مروان، استهدف رد شرف، وغسيل سمعة للموساد، بعد تعرضها لاتهامات بابتلاع طعم المخابرات المصرية، إضافة لمحاولة تجنب الشبهات المتعلقة بالمسئولية عن اغتيال مروان.

إسرائيل تحتاج من 48-72 ساعة للتعبئة للحرب، مروان ضمن خطة الخداع الاستراتيجى أبلغهم قبلها بـ24 ساعة فقط، وبموعد خطأ، منح مصر أربع ساعات، كانت كافية لإنجاح العبور، وإنشاء رؤوس كبارى بالضفة الشرقية للقناة.. د.عبدالعزيز حجازى أكد أن اتصالات مروان مكنت مصر من تدبير قطع غيار الطائرات التى أوقف الروس توريدها قبل الحرب، وكذا قطع غيار الطائرات الفرنسية التى نمتلكها، وأقنع ليبيا بتمويل صفقة الميراج الفرنسية «104 طائرات».. السادات أول من يدرك أهمية المهام التى قام بها مروان، لذلك عينه سكرتيراً خاصاً للمعلومات، ومنحه صلاحيات الممثل الشخصى للرئيس، والمنسق العام بين أجهزة الأمن لشئون أمن الرئاسة، ثم مسئولاً عن الهيئة العربية للتصنيع، ومنحه وسام الجمهورية من الطبقة الأولى.. مبارك أكد أنه «وطنى حقيقى» قدم خدمات تاريخية لم يحن وقت إعلانها، لكن التأريخ لحرب أكتوبر المجيدة، التى كان مروان جزءاً من خطة خداعها الاستراتيجى، لا يزال حبيس الأدراج، فهل سنفرج عنه، عندما تترسخ الأكاذيب، فلا تترك مكاناً للحقائق؟!.

بعد توقيع مصر لاتفاق السلام، والمقاطعة العربية، تم تجميد الهيئة العربية للتصنيع، وتعرض مروان لحملة إعلامية مضادة من موسى صبرى، والحمامصى، وعلى أمين، وأعداء عبدالناصر، باعتباره صهره، ومن الناصريين لانحيازه للسادات إبان ثورة التصحيح مايو 1971.. ابتعد، ونقل نشاطه إلى لندن، بعد حفل وداع دافئ بمنزل السادات.

فى كتابه «الملاك» اهتم جوزيف بتكذيب ما ردده «مروان» عن كتابته لمذكراته!!، ليُسقِط الدافع الرئيسى لإمكانية تورط إسرائيل فى اغتياله، فهى تتضمن تفاصيل خداعه للموساد.. المذكرات هى الوحيدة التى اختفت خلال الحادث.. شرطة سكوتلانديارد تجاهلت تعطيل كاميرات العمارة قبل الجريمة، وقررت أنها حالة انتحار، وعزز الطب الشرعى رؤيتها!!، فى 2010 أعيد التحقيق وصدر تقرير يؤكد عدم وجود دليل يعزز شبهتى الانتحار أو القتل.. «حكم مفتوح» يثير من الريبة أكثر مما يعكس من حقائق.

إسرائيل تحاول اختطاف الحقيقة فى قضية مروان، لأننا صمتنا، وغبنا، على نحو فتح الباب لها لمحاولة استثمارها لصالحها، تساؤلات جوزيف فى «الملاك» تستصرخنا: «مرت أكثر من 10 سنوات على موت مروان، و20 عاماً على اتهامه بالخيانة، و30 على موت السادات، و40 على حرب أكتوبر، ولم تخرج مصر برواية كاملة عنه، كجزء من تأريخها للحرب.. لماذا لم تستغل القصة فى تعزيز الشعور الوطنى؟».. هل عرفتم يا سادة لماذا صعّدت إسرائيل قصته، من إشارة على استحياء، لخلاف محتدم حول ولائه كعميل مزدوج، إلى قصص وهمية تمجد دوره الأسطورى، كجاسوس لها؟! إنها السلبية والتقاعس، ولا غير.. مروان اغتيل يونيو 2007، فهل نستبق عرض «الملاك» بحملة علاقات عامة، حتى لا يغتالوا سمعتنا هذه المرة؟!