«داير الناحية».. رواية الجرعة الواحدة
نعم، هى رواية الجرعة الواحدة.
هى إذن، من ذلك الصنف المستبد الأورويلىّ، الذى يعصف بك، فيجبرك على فض بكارة صفحاته فى جرعة واحدة.
إنها معزوفة عظيمة.
هى رواية تحمل رائحة صاحبها: قسمات وجهه وتغضناته.
هى محمد البرغوثى نفسه. حكايته التى لا يعرفها غيره. رحلة عمره، التى أبرح محابسها.
ولأن الصحافة تأكل طبقة الإبداع، ولأن الصحفيين مصابون بشح فى الإبداع الروائى، ظهرت صفحات قلة خائنة فى بداية رائعة «البرغوثى»، أقرب إلى الوصف الصحفى، غير أنه تجاوزها سريعاً بهيراركية سردية عجيبة.
خيالية أم ذاتية؟
إذا كانت الأولى، فإن الروايات التى تكتب من وحى الخيال، أحياناً ما تكون أقل ألماً من الواقع، لكنها قد تكون أكثر بؤساً من الحقيقة، وإذا كانت الثانية، فإنه حينما يتحدث الإنسان عن نفسه، لا يمكن أن يذكر الحقيقة كاملة.
هى على الأرجح رواية عن الجذور.
على النقيض، لم يكتب البرغوثى، ككل الريفيين، عن القاهرة الكافرة، بتعبير أحمد عبدالمعطى حجازى، فى قصيدته «الطريق إلى السيدة». كتب عن الجذور. عن ذلك الحنين، الذى لا يزول أثره أبداً.
ما الحنين إذن؟
إنه داء موجع، لا أمل فى الشفاء منه. هو قضية فلسفية عميقة، لا تفسير لها ولا تأويل، كما الحياة والموت، لكنه على الأرجح يجمع بين الأمرين. هو استدعاء للحظات تغلى فيها مراجل النفس، فتبدو كنوبات يوفورية صادقة، لا تأويل ولا تفسير لها أيضاً. هى حالة تشبه الجنون ولا تشبه.
الاشتياق أقسى من الموت. النوستالجيا قاتلة وكافرة. إنها احتضار موسمى ضارب فى الجذور.
باكورة البرغوثى، التى جاءت متأخرة كزحف العروق على الرقاب فى سنوات المشيب، تبدو كأنها سيرة ذاتية، حاول أن يتخلص فيها، من ثقل هذا الحنين.
«داير الناحية»، ليست رواية كلاسيكية، إنها حالة انفجارية فى سرديتها.
بلغة السياسة، هى صورة نحتية للحالة المصرية، فكك كاتبها التطور النمطى للكائن المعقد بشقيه الدينى والأمنى.
بلغة التاريخ، هى رصد أدبى لمحاولة شطب التاريخ بالجغرافيا.
بلغة الحب، هى رواية قاتلة وموجعة. هى رواية عن الذين يحبون بلا أمل، وينتظرون دون هدف. إنها شعور مربد عن الافتقاد، فلا تسلو منه الروح ولا تعاود العشق.
بلغة الغناء، فيها شىء من «فاكراك» نجاة على: وإن رحت مرة تزور عش الهوا المهجور، سلم على قلبى.
بلغة السرد، لفرط سرديتها، تهمى صفحاتها بالمفردات، فلا تمر صفحة دون أن تنفجر معانيها.
هذه رواية عن العمر.
ما العمر؟
يمر العمر كمعزوفة حزينة، أو كلحن سريالى لبريفرت. فى السريالية حياة وموت. الرثاء هو العاجز قليل الحيلة، أمام الموت. الموت موت. قدرى وهزلى. الكتابة وحدها تهدده وتهدهده.
اختصاراً، هذه رواية تشبهنى، فُصل بعضها كما لو كان لى. لى وحدى.
فيها كل شىء آلمنى وأبهجنى.
عيادتى لم تكن مهيأة لاستقبال هذا النوع من النكبات السردية.