أىٌّ من بنود «صفقة القرن» فى طريقه للخروج إلى العلن؟

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

تذهب إسرائيل إلى قطاع غزة، بحثاً عن حرب تماثل العمليات العسكرية الموسّعة «الجرف الصامد»، «الرصاص المصبوب»، حيث تبدو الآن الأحرص على صناعة أكبر قدر ممكن من الفوضى والصخب. فقانون «القومية اليهودية» يحتاج إلى ظهير عملياتى، يقتحم نشرات الأخبار بصور القذائف والمضادات، ويحشو المقاطع المصوّرة والتقارير بالقدر اللازم من التهديد والدمار. كما تذهب الآليات العسكرية الإسرائيلية إلى هناك، لتنفذ على الأرض توجّهات الساسة فى تل أبيب بتحويل «ملف غزة» إلى «حالة إنسانية»، لإتمام حشرها، ما بين أموال المساعدات وترمومتر حرارة المانحين، وعلى طول أروقة وشاحنات منظمات الإغاثة الدولية والإقليمية.

قانون اعتبار «إسرائيل: الدولة القومية للشعب اليهودى»، تدشين جديد تماماً لتعريف دولة إسرائيل، وينقلها من دولة احتلال تخرق القوانين والقرارات الدولية، الصادرة بحق السكان الأصليين، أو بأقل التوصيفات الذين تصادفت إقامتهم على هذه البقعة من الأرض، وقت إعلان دولة إسرائيل. إلى مفهوم لا يقتصر على استعادة الأدبيات الصهيونية لعملية تأسيس الدولة، التى استهدفت تكريس واقع الاحتلال الاستيطانى عبر جميع أشكال «التغول»، بمنطق إحلال الإسرائيليين محل الفلسطينيين، فى أرضهم ومياههم وعاصمتهم ومدنهم وحصاد زروعهم. إنما يذهب إلى أبعد من ذلك، ويوصف اختصاراً بدولة «الأبارتاهيد»، أى الفصل والتطهير والطرد العنصرى الكامل لصالح بقاء واستئثار «العرق اليهودى».

هنا المأزق كبير، وليست الخطوة الإسرائيلية بقرار عابر حان توقيت تمريره، إنما هو يضرب ويبدل بعمق «أصل» وكيان الدولة من الداخل. فالأصوات والتقديرات الإسرائيلية المناهضة لهذا القانون، واسعة ومؤثرة وتلقى الضوء على رؤية مغايرة، حتى لمن يؤمنون فى الأصل بـ«حق» الاحتلال والاستيطان. فقد كتبت مؤخراً قبيل ساعات من إقرار الكنيست لقانون «نيعومى خازان»، التى كانت تشغل منصب نائبة رئيس مجلس الكنيست، والآن هى عميدة مدرسة المجتمع والحكم فى كلية تل أبيب يافا. حيث ذكرت نصاً «ما لم يعد الكنيست إلى رشده فى اللحظة الأخيرة، فإن إسرائيل على وشك التخلى عن مبادئها التأسيسية، ومعها سبب وجودها ذاته». وتأتى الكاتبة لتضع تحفّظاً بعبارات قاسية الاستهجان على الفقرة قبل الأخيرة من البند 7(ب)، حيث تنص على «السماح لمجتمع، بما فى ذلك مجتمع مؤلف من دين واحد أو قومية واحدة، بإنشاء مستوطنة مجتمعية منفصلة خاصة به». حيث تعلق قائلة: وهو ما سيُشرعن استبعاد المواطنين العرب فى البلاد الذين يشكلون 20% من مواطنى الدولة ويملكون فقط 2.1% من أراضيها، من مئات المستوطنات المجتمعية اليهودية فى تحدٍّ مباشر لأحكام مؤثرة للمحكمة العليا. وقد تعانى مستقبلاً مجموعات أخرى من التمييز نفسه.

هذا بعضٌ مما كتبته «نيعومى خازان»، واسترسلت بعده فى إطلاق صيحات التحذير حول جوانب مختلفة، وأوردت أسماء ثقيلة داخل «حزب الليكود» اليمينى يعارضون القانون برمته، ويصفونه بالأوصاف والمخاوف ذاتها. وهنا نحن أمام شريحة إسرائيلية طالما شكلت «رأس» حربة الاحتلال والاستيطان، وغيرها من عمليات نهب الأراضى والحقوق. لذلك فالواقع يشى بأننا إزاء تبدّل غريب وخطير فى آن، ويحمل من التطور ما قد يكشف عن الخطوات والجهود الحثيثة التى انتهجها «نتنياهو» لتمرير مثل هذا القانون، وحجم التحالفات الداخلية التى بذلها مع الأكثر تطرّفاً من «الليكود»، وقيمة الوعود المبذولة لهم فى حال إنجاز المساعدة فى تمريره بالكنيست، وهو ما قد تم فى النهاية.

خلال كتابة تلك السطور، تمكنت مصر فى اللحظات الأخيرة من انتزاع تهدئة قبل انزلاق كلا الطرفين، إلى ما كانا يخططان له. وهى خطوة مصرية محمودة بالطبع، لكنها إزاء المشهد الراهن تدعو إلى التساؤل، عن جدوى مثل تلك الوساطات التى تكرّرت عشرات المرات، وسيقف الطرفان على حافة الهاوية مرات عديدة قادمة، فهل حان أوان وقوف الجهود المصرية لتقييم وجهتها، فهى واقعياً لديها ميراث من التحفّظات العميقة على أداء الطرفين. على الأقل الآن؛ وفى غضون بذل تلك الوساطة والضغط هنا وهناك، أصدرت إدانة رسمية شديدة اللهجة لـ«قانون القومية اليهودية»، حيث وصفته بأنه «يُكرّس مفهوم الاحتلال والفصل العنصرى». وعلى الجانب الآخر فى الغضون ذاتها، تتلقى ردود «حماس» على آلية تنفيذ اتفاقية المصالحة الداخلية. لذلك بدا هذه المرة أن كلا الطرفين «إسرائيل/ حماس»، كانتا فى تلهف انتظار الوساطة المصرية، كى تعطياها موافقتهما. لكن هل هذا جيد أو أفضل شىء، بالنسبة لمصلحة مصر ودورها؟ لا أظن، بقدر ما يبدو من رغبة كلا الطرفين فى «تحجيم» الدور المصرى، وحصره فى إطار لعب دور «نافذة الهواء» التى تسهم فى تصريف هواء وأهواء احتقان.

هل يمكن لمصر الآن فرض شروط التدخل التى تخصها هى، قبل الضلوع بمهمات من هذا النوع؟ الحقيقة قبل البحث عن إجابة؛ مصر فرضت قبلاً مرات عديدة شروطاً على كلا الطرفين. وإن كانت الشروط تظل متغيرة باختلاف ظروف وملابسات مجمل الوضع فى كل مرة، لذلك تبدو هذه المرة أن الشروط المصرية، فضلاً عن دقة وأهمية فرضها، لا بد أن تقرأ جيداً إلى أين وصلت الأوضاع الفلسطينية من الداخل، وما هى آفاق خطط الاحتلال الإسرائيلى المتّجه اليوم إلى تغييرات جذرية، من نوع اعتبار القدس رسمياً عاصمة للدولة، ومؤخراً صدور قانون الأبارتاهايد.

كلا التقديرين للموقف، تحتاجهما مصر الآن بأكثر من أى وقت مضى، مع وجوب اتصافهما بأعلى درجة من «واقعية» ما تراه الأجهزة، من «حقيقة» وأهداف كل طرف منهما. ليس هذا وضع للمحتل على قدم المساواة مع الحق الفلسطينى، الذى تتبناه مصر وتبذل جهداً خارقاً فى الدفاع عنه، إنما هو التعاطى بشفافية واستقراء القادم بما سيؤثر على مصر قبل القضية. فليس بخافٍ أن ما نراه اليوم هو بنود من «صفقة القرن» المخفية، يتم تنفيذها على الأرض، والمأساة أنها ليست من جانب واحد، بل يلعب قيادات «قطاع غزة» دورهم فيها ببراعة وهمة منقطعة النظير.