سامي عبد الراضي يكتب: بين «بديعة» في ريا وسكينة.. و«نيللي» في أطفال المريوطية

كتب: سامي عبد الراضي

سامي عبد الراضي يكتب: بين «بديعة» في ريا وسكينة.. و«نيللي» في أطفال المريوطية

سامي عبد الراضي يكتب: بين «بديعة» في ريا وسكينة.. و«نيللي» في أطفال المريوطية

تتكرر الأحداث والظروف حتى ولو مر ما يقرب من مائة عام، وقد يكون هناك عامل مشترك بين حدثين، هنا أتحدث عن «بديعة» والتي اختارها القدر لتكون ابنة وحيدة لـ«ريا» على الرغم من أن «ريا» حملت أكثر من 10 مرات من زوجها «حسب الله»، جميع أطفالها ماتوا ولم يبق منهم سوى «بديعة».. «بديعة» كان عمرها 9 سنوات شاهدت جرائم «الأم والخالة» وقادت وهي في هذا العمر كل أفراد أسرتها في 1920/1921 إلى حبل المشنقة عندما أدلت باعترافات تفصيلية أمام محقق النيابة وقالت كل شيء.

بديعة هذه المرة هي طفلة في نفس العمر 9 سنوات اسمها «نيللي» بيضاء هي تملك عينين زرقاوين جمعتها شقة واحدة مع «أطفال المريوطية» كانت تقول لأمهم «يا خالة». نيللي أيضًا وحيدة مثل «بديعة» قلبها كان يسكن في هذه الغرفة الضيقة الصغيرة، الغرفة التي جمعت الأطفال الثلاثة (محمد 5 سنوات، وأسامة 4 سنوات، والأصغر فارس ابن العامين) كانت تلهو معهم وتلعب وتجد متعتها هناك في هذه الغرفة، لا فارق بين القبر الذي يسكنه الآن الأطفال الثلاثة وبين الغرفة التي كان يسكنها الأطفال الثلاثة بالعكس فالقبر به رحمة ورضا ورعاية من الله تحرس الملائكة الصغار الآن، أما الغرفة فكانت «قاتلة».

حكى لي اثنان من ضباط البحث الجنائي في الجيزة بعد كشفهما للتفاصيل كاملة: «الغرفة دي مكنش فيها غير شباك صغير بيبص على منور، مفيش فيها لمبة نور مفيش سرير ولا حتى مرتبة، العيال كانوا بيناموا على البلاط أو الأم تفرش لهم شوية هدوم يناموا عليها، الأم حكت لنا عن الولاد دول وإزاي كانت مضطرة تقفل عليهم الباب بقفل، صديقتها (سها) اشترطت على الأم شرطًا للإقامة قالت لها (الولاد ميطلعوش من برّه الأوضة آه يبهدلوا الدنيا ومحمد ابنك شقي) وهكذا كان الثلاثة [محبوسين] متعتهم الوحيدة نهارًا مع نيللي، وكانت متعتها معهم، نيللي هي التي اكتشفت مبكرًا الجريمة كانت تدخل من باب الشقة وتهرول تجاه الغرفة وتطرق على بابها: (أنا جيت يا محمد أنا جيت يا أسامة وهنلعب) في المرة الأخيرة طرقت ولم يرد الثلاثة تزامن ذلك مع رائحة دخان وصلت إلى أنف أم الثلاثة وأم نيللي وكانت المفاجأة عند فتح الباب الذي كان أعلاه محترقًا عثروا على الأطفال الثلاثة محروقين صرخت الأم وسريعًا تدخلت أم نيللي (إسكتي هاخليكي تحصليهم كده كلنا هنتحبس وهنضيع وأنا مش ناقصة بلاوي) وفي لحظات سحبوا الجثامين الثلاثة إلى خارج الغرفة نعم سحبوهم لم ينقلوهم وجلسوا بجوارهم ساعات طويلة يفكرون في الخطوة القادمة. نيللي سألت ببراءة الأطفال (أنا هلعب مع مين دلوقتي؟) بكت الأم وقالت (والله والله أنا غصب عني، لو أقعد يوم من غير شغل ما ألاقي أجيب لهم أكل، أقسم بالله إن الواد الوسطاني [أسامة] قال لي وأنا نازلة آخرة مرة ربنا يرزقك يا ماما وتجيب لي مصاصة وإنتي راجعة ورجعت ما لقيتوش لا هوه ولا إخواته)».

«نيللي» كانت تتابع الموقف وعصر نفس اليوم كانت تخرج لهذه الصالة وتلقي نظرة على الثلاثة وتعود إلى غرفة بها أمها وخالتها أو هكذا تسميها، فجأة صرخت وقالت (واحد منهم بيتحرك) وصرخت فيها الأم (إسكتي ملكيش دعوة) وصرخت مجددًا في أم الأطفال وقالت (هو كده كده ميت، ماسمعش صوتك تاني) نيللي كانت شاهدة عندما أحضروا الشنط البلاستيك السوداء ودفنوا بها الجثامين وكانت شاهدة على الرائحة الكريهة التي انبعثت وشاهدة على وقوفهم في شارع «مكة المكرمة» ليلاً ومحاولات مستميتة لاستيقاف «توك توك» يقف أي سائق وينطلق بسرعة «ريحتكم وحشة» ويجري من المكان حتى حضر من بعيد جدًا سائق «توك توك» اسمه «محمد» (28 سنة) جاء من مدينة أبو النمرس كان يوصل زبون إلى نفس الشارع وبالمصادفة وقف أمامهم وقالا له «أبو النمرس يا اسطى»، وكانت فرصته «أيوه مش هارجع فاضي» وسمح لهم، كانوا ينوون التخلص من الجثامين في مدينة أبو النمرس أو إحدى قراها والتي تبعد قرابة 8 كيلومترًا من مسرح الجريمة.

تحرك السائق وبعد 500 متر وعند شارع «المريوطية» قال للسيدتين: «إنزلوا مش هكمّل المشوار، الريحة وحشة، ياللا إنزلوا». نزلت «نيللي» وهي حائرة تسأل نفسها «هيعملوا إيه، هيرموا محمد وأسامة وفارس؟، هيرموهم فين؟» كانت خائفة صامتة لا تتحدث ولم تسأل، ولكنها وقفت مضطرة في شارع «المريوطية» الساعة كانت تقترب من الحادية عشرة مساء إلى جوارها «الأم والخالة» وخلف أقدامهم الثلاثة على الأرض يرفض سائقو التوك توك الوقوف، وكلمة السر «ريحتكم وحشة» دقائق وكان القرار «إحنا نرمي الجثث هنا.. مش هنعرف نروح أبو النمرس»، رموا الجثامين الثلاثة في وسط القمامة بجوار سور فيلا مهجورة نفس مكان العثور عليها، بسرعة تحركوا من المكان وعادوا إلى الشقة جمع كل منهم بعضًا من ملابسه وقرروا المغادرة، أم الأطفال الثلاثة عادت إلى قرية «شبرا منت» القريبة من الهرم، هناك حيث زوجها «حسان» (65 سنة) عادت دون الأبناء الثلاثة، وأم نيللي قررت أن تذهب إلى منطقة الوراق شمال الجيزة.

«نيللي» كانت تتبعها تسير خلفها ألقت نظرة أخيرة على الغرفة وتذكّرت لحظات سعادتها وضحكاتها وبعض «الغلاسة» في اللعب مع الأطفال تحركت وعقلها يسأل «إيه هيحصل مع أسامة ومحمد وفارس وليه إترموا هناك وإيه وإزاي وليه»، كانت تسأل نفسها وعقلها الصغير لا يحمل إجابات وخوفها منعها من سؤال الأم.

«نيللي» أيضا قالت شهادتها للضباط، شهادة لن تقود إلى حبل المشنقة كما قادت شهادة «بديعة» ريا وسكينة إلى حبل المشنقة، جريمة الأم والصديقة هنا في «أطفال المريوطية» تختلف عن جريمة ريا وسكينة. الأخيرتان قتلتا 17 سيدة، وكان الحكم هو الإعدام. في جريمتنا هذه العقوبة حتمًا ستكون مخففة، الاتهامات هي الإهمال وإخفاء جثة وربما قتل خطأ اتهامات عقوبتها لن تزيد عن 7 سنوات سجن.. 7 سنوات ولن تعرف فيها «نيللي» مصيرها كما عرف محمد وأسامة وفارس مصيرهم. مصيرهم كان بين يدي الله هو الأرحم والأكثر «طبطة» وعدلاً.. مصير «نيللي» قد يكون مثل مصير بديعة والتي دخلت دار رعاية أيتام في الإسكندرية تعددت الروايات عن مصيرها كتب البعض أنها احترقت وكتب آخرون أنها عاشت وتزوجت وماتت بالإسكندرية، بين «بديعة» و«نيللي» 97 عاماً، ولكن المشاهد متشابكة ومتشابهة وتتكرر لأن الظروف واحدة والأيام لا ترحم وقاسية.. قاسية قسوة النيران والدخان على صغار ماتوا في غرفة ضيقة، ماتوا وصرخاتهم لم تصل لأحد ماتوا وتبقى الحياة هكذا مستمرة وأيامنا هكذا مثل الريح لا تقف ولا تهدي تدوس علي أي حدث وتمحوه مِن الذاكرة، إلا ذاكرة «نيللي».


مواضيع متعلقة