بالصور| منسوجات أخميم اليدوية.. مهنة الآباء والأجداد يتوارثها الأبناء
«مانشستر ما قبل التاريخ»، لقب كان يُطلق عليها لانتشار صناعة النسيج بها منذ عهد الفراعنة، نسبة لمدينة مانشستر الإنجليزية، التى تشتهر بصناعة النسيج الحديث، إنها مدينة أخميم بسوهاج، الشهيرة بمنتجاتها من القطن المصرى والكتان والحرير الطبيعى، المُصنعة يدوياً على الأنوال الخشبية بأيدى النساجين، مرت بمراحل صعبة على مدار تاريخها، إلى أن تجمعوا داخل وحدات بقرية النساجين بحى الكوثر أمام الأنوال الخشبية يعلمون أبناءهم الصغار الصنعة كما ورثوها عن آبائهم وأجدادهم.
تبدأ المرحلة الأولى من التصنيع اليدوى للمنسوجات عن طريق اختيار أنواع الخيوط بألوانها، مع تحديد حجم الكوفرتة أو المنتج المُراد تصنيعه والطول والعرض، لتبدأ عملية السداء، ويتم فيها تجميع الخيوط معاً، وفقاً للتصميم المطلوب، وتطوى على هيئة كرة من الخيوط تسمى «السدوة»، مثلما أكد «أيمن عبدالفتاح»، 48 عاماً، أحد النساجين بحى الكوثر، ويتحدث «أيمن» عن بدايته فى تعلم المهنة قائلاً: «بقالى 40 سنة فى الشغلانة دى من وأنا عيل صغير، لأن أبويا كان شغال مسدى، عند أولاد الخطيب، ودول أقدم ناس فى المجال ده فى أخميم، وكنت شغال مع الخطيب فى البداية لكن لما اتجوزت وبقى عندى عيال ومصاريف نزلت القاهرة اشتغلت على دورات آلى، لكن معرفتش أقعد كتير فى القاهرة».
«سعدالدين»: والدى شربنى الصنعة وحبيتها عشان مجال الإبداع فيها مفتوح
يصمت الرجل الأربعينى ثم يستكمل حديثه عن مشواره فى النسيج اليدوى: «بعد ما رجعت سوهاج تانى والعيال كبرت خدت بيت هنا إيجار فى قرية النساجين وقاعد فيه بـ300 جنيه فى الشهر مع المياه والكهرباء، وده طبعاً بيبقى حمل كبير عليّا، ولو مكانش فيه مساعدة من مؤسسة الفراعنة والواحد صنايعى كويس كانت الدنيا هتبقى صعبة، لأنها بتوفر لنا الخامات».
يعمل «أيمن» 12 ساعة يومياً مقابل متوسط دخل يومى 70 جنيهاً، مثلما أوضح. أما عن ارتفاع أسعار الخامات ومصير النسيج اليدوى فيقول: «أسعار الخامات بقت غالية وبقيت بوظف الشغل اللى عندى على حسب الخامات المتاحة، وبقى الشغل اللى بينطلب منى أقل من الأول، الصنعة دى عزيزة عليّا، وقبل كده اشتغلت سواق لما الدنيا زنقت معايا، لكن منفعتش فيها ورجعت للشغلانة دى تانى، المهنة دى تمرض بس مش هتموت أبداً».
أما المرحلة التالية فتُسمى «اللاقية»، وفيها يقوم شخصان بالعمل معاً وتمرير خيوط السدوة من بين خيوط النير، حسب التصميم المطلوب ووفقاً لأعداد معينة من الخيوط، وفيها يتم تجهيز السدوة قبل دخول مرحلة النول، وهو ما يفعله سعد الدين حسين، 42 عاماً، مع زوجته، ويساعده أبناؤه عقب حصولهم على الإجازة الصيفية، قائلاً: «بشتغل فى المهنة دى من سنة 1989، وكنت ساعتها بشتغل مع والدى وبتعلم منه، لحد ما شربت الصنعة وركزت فيها، وحبيت الصنعة دى عشان فيها المجال مفتوح إنى أبدع فيه».
يقضى «سعد» يوماً كاملاً فى السدوة الواحدة، ويعتمد فى تسويق وعرض منتجاته على مؤسسة الفراعنة، مثلما أوضح، كما يتمنى السماح له ببناء طابق آخر على الوحدة التى يسكن بها قائلاً: «أنا مُقيم هنا بشكل دائم، وغالبيتنا كده كلنا ساكنين هنا مش مجرد مكان للشغل، ونفسنا يبقى فى استطاعتنا إننا نبنى على الدور الأرضى ده دور ولا دورين كمان لأنه بقى عندى زوجة وأبناء والمكان بقى ضيق علينا، لكن المشكلة فى إذن الحى، حلاوة المكان هنا إنه هادى، بس فيه نقص فى الخدمات، يعنى مفيش مسجد ولا وحدة صحية، الخدمات هنا معدومة خالص».
وفى المرحلة الثالثة يتم تركيب السدوة على النول، وبدء العمل على النول، وهى المرحلة الأخيرة التى تسبق أعمال تجهيز المنتج وتغليفه للمستهلك، وداخل إحدى الوحدات يعمل «خيرى همام»، 50 عاماً، أحد النسّاجين، بصحبة أبنائه الصغار على أحد الأنوال بعدما علمهم المهنة، يقول: «بشتغل فى المهنة من سنة 1994، وشغلى أو المنتج اللى بطلعه نظام كوفرتة عرض 180 فى طول 240 سم، وكليم عرض 80 فى 220، والخامات فى الصنعة دى دلوقتى بقت جودتها أفضل عن زمان بكتير».
وعن تعليم أبنائه الصغار صناعة النسيج اليدوى يقول «خيرى»: «زمان مكانش لسه فيه مسئوليات ومكنتش اتجوزت لكن دلوقتى بقى عندى 6 عيال والوضع اختلف، واضطريت أعلم عيالى المهنة دى وأشغلهم معايا يساعدونى، منهم 3 دلوقتى بيشتغلوا معايا واتعلموا خلاص، أحمد (18 سنة)، ومحمود (16)، وعبدالله (14)، ووصلوا خلاص لمرحلة فى الصنعة إنى لو مش موجود هما بيشتغلوا ويسدوا مكانى، بس فى مرحلة معينة لازم أنا بقى اللى أتدخل زى لو حصل عطل مثلاً»، موضحاً أنه فى بداية تعليمه لأبنائه كانوا متحمسين للغاية، لكن مع ضغط الشغل وكطبيعة الصبية فى تلك الفترة العمرية أحبوا أكثر اللعب مع أصدقائهم: «بعلمهم عشان لما يكبروا يبقى معاهم صنعة يشتغلوا بيها يشوفوا بيها مستقبلهم، لأن خريجى الكليات دلوقتى مش لاقيين شغلانة وقاعدين فى بيوتهم، وأنا توارثتها من والدى».
«منى»: مكسبها حلو.. وبشتغل جوه بيتى من غير مواعيد ثابتة.. و«أبوبكر»: «الفراعنة» هدفها حماية الصناعة
صناعة المنسوجات اليدوية بقرية النساجين داخل حى الكوثر هى أيضاً مصدر رزق للكثير من السيدات اللاتى يفضلنها لأنها مُربحة وفى الوقت نفسه ليست لها مواعيد ثابتة ولا تستدعى الخروج من المنزل، ومنهن، والتى تعمل على أحد الأنوال، منى محمود، 30 عاماً، التى تعمل فى ذلك المجال منذ 10 أعوام، تحكى عن بداية تعلمها للصنعة قائلة: «حبيت الشغلانة دى من زمان وكان نفسى أتعلمها، ورُحت أقعد مع الحريم وهى بتشتغل وأشوفهم بيعملوا إزاى وأقلدهم، لحد ما تعلمت الصنعة كلها وبدأت ساعتها أشتغل وأنفذ الشغل من البيت، وبصراحة الشغل فى المنسوجات اليدوية ممتع وحلو»، وعن مميزات صناعة النسيج اليدوى تقول «منى»: «الشغلانة مكسبها حلو دلوقتى وساعدتنى فى مصاريف البيت والعيال، وفيها ميزة إنى بشتغل جوه بيتى لا خرجت ولا طلعت منه، وكمان أقدر أشتغل فى أى وقت أنا حابّاه سواء الصبح أو بالليل زى ما أحب ومش مُقيدة بمواعيد شغل ثابتة».
وعن طبيعة عملها تقول «أم ملك»: «المنتج بيخرج من عندى يروح لمرحلة التشطيب ويتحط فى أكياس، وعشان بقالى فترة شغالة فى المجال ده بقى ليّا اسم هنا، وليا زباينى اللى بتيجى مخصوص عشان جودة شغل أم ملك»، وتختتم حديثها عن المشاكل والازمات التى تواجهها قائلة: «عندنا مشكلة فى الخامات والتجار بيلعبوا بينا، وكل يوم الخامات فى الزايد، وسعر الكوفرتة زى ما هو، وبكده يقلل من المصنعية بتاعتى، وبقالنا فترة فى المشكلة دى، ده غير كمان مفيش معارض نسوّق فيها الشغل بتاعنا، وياريت يوفروا لنا معارض والناس تشوف شغلنا، لأنه من غير المعارض الشغل يتركن عندى».
ويقول أبوبكر السيد (30 عاماً)، المدير التنفيذى لمؤسسة الفراعنة للتنمية والتطوير والتسويق لمنتجات النسيج اليدوى بحى الكوثر، إن المؤسسة أنشئت فى عام 2013 ومُشهرة من الشئون الاجتماعية، ودورها الحفاظ على صناعة النسيج من منطلق الاهتمام بالصناعة الموجودة فى محافظة سوهاج، وكان هدفنا الأساسى هو مساعدة النساجين وتطوير المنتج لكى نستطيع تسويق المنتجات والمنافسة بها فى الأسواق، وأن المؤسسة أطلقت مبادرة لتدريب وتشغيل 1000 أسرة فى صناعة النسيج اليدوى، كما بدأت فى تدريب وتشغيل شباب الخريجين.
ويؤكد «أبوبكر» أن هناك 560 أسرة تعمل فى صناعة النسيج اليدوى داخل أخميم سواء على الأنوال أو فى الصناعات التكميلية للنسيج، فى قرية النساجين وقرية الديابات والعيساوية والسلامونى، مضيفاً: «طبعاً مش كلهم أنوال لأن سعر النول بيدخل فى 10 آلاف جنيه والمؤسسة إمكانياتها متقدرش عليها»، موضحاً أن «أخميم» تشتهر بالنسيج اليدوى والحرير الطبيعى، منذ عهد الفراعنة، ويُصنع منه الكوفرتة والكليم وقماش السرير والتنجيد.
ويوضح المدير التنفيذى للجمعية أن قرية النساجين افتتحت عام 1990 فى عهد اللواء طنطاوى محافظ سوهاج، المنطقة الأولى تضم 150 بيت نسيج، أما الثانية فتضم 127 بيتاً، وأزمتهم تتعلق بصعوبة الحصول على الخامات بسبب أسعارها المرتفعة بعد تعويم الجنيه، أما من جانب التسويق فيقول: «دلوقتى خطة المعارض بقت أحسن وبقت المعارض طول السنة وكل شهر فى محافظة مختلفة، بس نتمنى اهتمام أكبر من جانب الحكومة والمحافظ».