أحمد الحضرى.. الأب الروحى للثقافة السينمائية
فى كتابه القيِّم «أحمد الحضرى.. رائد الثقافة السينمائية» يتابع الباحث المدقق والناقد الدؤوب محمد عبدالفتاح رحلة الضابط المهندس السينمائى أحمد الحضرى منذ ميلاده فى السادس والعشرين من أكتوبر عام ١٩٢٦ وحتى الآن -أمد الله فى عمره- كان فيها نموذجاً لصرامة الانضباط وثقافة الدقة وإخلاصاً بلا حدود لما يراه صحيحاً.. قوة دافعة للثقافة السينمائية التى لعب فيها دوراً محورياً منذ عودته من بعثته فى لندن وانضمامه إلى «ندوة الفيلم المختار» التى أنشأها الأديب الكبير يحيى حقى عام ١٩٥٦، لتكون أول مدرسة عملية للتذوق السينمائى وتدريب هواة السينما على كيفية ممارسة النقد شفاهة وكتابة.
فى تدوينه لذكريات «الحضرى» يذكر محمد عبدالفتاح أنه قد خفتت فى ذاكرة «الحضرى» سنواته الأولى؛ طفلاً فى العباسية، لكنها انتعشت بعد ذلك تروى عن ذكريات سنوات الدراسة فى مدارس وسط القاهرة، والتحاقه بكلية الفنون الجميلة طامحاً أن يكون مهندساً معمارياً، وقد كان، ولم ينس انضمامه -أثناء دراسة الفن- إلى مدرسة الضباط الاحتياط وتخرجه فيها عام ١٩٤٧، وبعدها بعام حصل على بكالوريوس الفنون الجميلة، ووفِّق فى الحصول على بعثة إلى لندن لدراسة المساحة لكنها كانت فرصة لتعميق وعيه بالسينما التى أحبها ثقافة وحرفة.
يعود «الحضرى» إلى مصر عام ١٩٥٥ ليلتحق بالجيش ضابطاً احتياطياً ومشاركاً فعالاً فى النشاطات السينمائية التى كانت بالقاهرة فى تلك الفترة كنادى سينما كمال سليم بسينما كايرو ونادى سينما مترو، وقد كانت هذه النوادى دافعاً قوياً ليحيى حقى لإنشاء «ندوة الفيلم المختار» عام ١٩٥٦ أثناء رئاسته لمصلحة الفنون، ليجد فيها «الحضرى» ضالته مع العديد من هواة السينما وعشاقها الذين تدربوا من خلالها على مناقشة وتحليل الأفلام، ليشكلوا معاً نواة اتجاه جديد فى النقد السينمائى الذى كان يعتمد على الانطباعات الصحفية والقراءات المتعجلة، لكن الرياح لا تأتى عادة بما تشتهى السفن، فحين ترك يحيى حقى منصبه جاءت نهاية الندوة عام ١٩٥٩! وارتبك روادها، فكان اقتراح «الحضرى» بإنشاء جمعية أهلية للسينما بمثابة طوق نجاة للمجموعة كلها التى وافقت على الفكرة، ليتم إعلان مولد «جمعية الفيلم» وإشهارها لتبدأ نشاطها عام ١٩٦١ ويجد فيها «الحضرى» مجالاً لترسيخ فكرة نشر الثقافة السينمائية بمعناها العلمى والفنى.
مارس «الحضرى» نشاطه رغم كونه ضابطاً بالقوات المسلحة إلى أن تم اختياره عميداً للمعهد العالى للسينما عام 1967.. فيبدأ فى عمل تخطيط منهجى علمى بديلاً للدراسة العشوائية التى تتم بالمعهد منذ إنشائه عام ١٩٥٩، لم يتحمله أصحاب المصالح، ويختلق أحد الأساتذة الأجانب عدداً من المشاكل كانت السبب وراء قرار وزير الثقافة ثروت عكاشة -الذى اختاره عميداً- بإعفائه من منصبه الذى أمضى فيه عاماً واحداً فقط! والطريف أن ذات الوزير سرعان ما عهد إليه بمسئولية إدارة نادى السينما فى موسمه الثانى خلفاً للناقد مصطفى درويش. ومع «الحضرى» تحول النادى إلى منبر يتسع لكل أطياف المهتمين بالسينما؛ هواة ومحترفين ومثقفين، ويلعب النادى تحت إشرافه لما يزيد على عشرين عاماً دوراً جوهرياً فى زيادة وتنمية الوعى بالسينما كأحد روافد الثقافة الوطنية، وكذا إسهامه فى فتح نافذة عريضة يطل منها عشاق السينما على أحدث الإنتاجات العالمية، بل واستدعى عدداً من الخبرات السينمائية الأجنبية الكبيرة للحضور إلى النادى لنقل تجاربهم إلى أعضائه الذين تكاثروا وازداد عددهم. وأصدر نشرة أسبوعية، بانتظام، لمدة ٢٦ عاماً، بلغت صفحاتها ما يقرب من عشرين ألف صفحة، لتبقى منهلاً لثقافة سينمائية رفيعة، وتدشيناً لأسماء أجيال متتالية من النقاد.. إلى أن كانت نهاية النادى حين تركه «الحضرى» عام ١٩٩٣ بسبب صراعات مختلقة انتهت بالقضاء على واحد من أهم إنجازات الرجل ورفاقه.
يظل «الحضرى» دائماً نموذجاً رائعاً للإخلاص والتفانى والانضباط أينما ولَّى وجهه. وحين تولى رئاسة المركز القومى للسينما عام ١٩٨٠ حاول أن يجعله على غرار معهد الفيلم البريطانى؛ مسئولاً عن كل الأنشطة السينمائية، فتربص به هواة الفوضى ليفاجأ بإقالته، كالعادة، من دون إبداء الأسباب، فيركز جهوده فى نشاط الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما، حيث استقبله رئيسها كمال الملاخ بترحاب شديد، وعهد إليه بالعمل فى مهرجانى القاهرة والإسكندرية اللذين تنظمهما الجمعية منذ عام ١٩٧٦ إلى أن قرر وزير الثقافة حينئذٍ عبدالحميد رضوان تجميد نشاط الجمعية وأمر بألا تقيم أى جهة مهرجاناً للسينما سوى وزارة الثقافة، فيرحل مهرجان القاهرة إلى الوزارة، وفى عام ١٩٨٩ تستعيد الجمعية حق إقامة مهرجان الإسكندرية، ويتولى «الحضرى» رئاسته ورئاسة الجمعية، إلى أن يستقيل منهما عام ١٩٩٦ ليفسح المجال للشباب.
فى خضم هذه الأجواء والصراعات والإنجازات والعمل المتفانى، يقوم الرجل بترجمة العديد من الكتب المهمة فى فنون السينما أحسن اختيارها لتكون مرجعاً للمحترفين والهواة معاً، وربما من أهم إنجازات أحمد الحضرى ذلك المرجع الأم لتاريخ السينما فى مصر بجزأيه؛ من البدايات حتى عام ١٩٣٠، ثم من ٣٠ إلى ١٩٤٠، وهو أول محاولة علمية فى كتابة تاريخ السينما المصرية، واعتبر الناقد الكبير سمير فريد صدور هذا الكتاب «حدثاً مهماً فى الثقافة المصرية».
أستاذنا الجليل، وأنت تبدأ عامك الثامن والثمانين -أطال الله عمرك- كل عام وأنت بألف خير؛ متألقاً، معطاءً، وكعادتك قوة دافعة لكل ما هو طيب ونبيل!