هل الاختلاف مصباح رؤية أم مدعاة عداوة؟!
أغلب الظن، إن لم يكن أغلب اليقين، أن الآدمى لا يحب -إن لم يكره- مَنْ يخالفه.. لأن المخالفة تبدو فى نظره قريبة من الخصومة، مع أن هذه المخالفة ضرورية جداً لحياة الآدمى كفرد أو كعضو فى مجموع، بل لعلها أشد لزوماً من الموافقة التى نرتاح إليها وننشدها ونفضل ما يصحبها ويصاحبها من الشعور بالراحة والأمان مع المتفقين أو الموافقين.
والمخالفة إن لم تكن محض رغبة مريضة فى الاعتراض تنطوى، أياً كان الرأى فيها، على رؤية أخرى للأمور من بعض أو كل الوجوه، تختلف عما نراه ونحبه. لكنها دائماً تفسح وتوسع مجال رؤية الآدمى إذا لم يغلق أمام نفسه كل نوافذ الرؤية.. وهو لا يغلقها إن أغلقها إلّا بالتصلب والعناد إزاء ما يراه اعتراضاً على رأيه أو مسلكه أو تفكيره، وقد يظنه من باب العداء أو الحكم على شخصه بما لا يحبه ولا يرضاه!
رؤية البشر ومجهودهم
ورؤية البشر للأمور، أياً كانت اتجاهاتها، مصدرها الرئيسى الموافقة والنقل والاستنتاج، وهذه المصادر الثلاثة تتم عادة لدى السواد الأعظم بمراعاة قانون أقل مجهود، وبأدنى قدر من العناء الذى يكفل الدقة والحرص على الضبط والإحكام. وفى ذلك كله يتدخل العرف والاعتياد العام إلى حد كبير، كما تُصاغ على أساسها أصول الآداب وقواعد الأخلاق وسننها وقدر كبير من أنماط السلوك وتعاليم الخير ووجوهه، وما يقابل ذلك مما يوصف بالفساد والضلال والشر.
وهذا كله مبناه الظن الذى قد يمسى جزماً وقَطْعاً بفعل العادة ومرور الزمن وتعاقب الأجيال على الاعتقاد والامتثال.. فإذا انقطع الاعتياد وكف الامتثال جرف النسيان ذلك الذى كان لازماً جازماً مقطوعاً به، وأمكن أن يحل محله ما كان من قبل مرفوضاً متروكاً أو محظوراً، واتسعت رؤية الآدميين له ووافقوا عليه واقتنعوا به بل وغضبوا له بعد غضبهم أو غضب آبائهم عليه. وبقيت من ذلك آثار تستطيع أن تراها فى المبانى أو المعابد أو المقابر أو الكتب والأوراق، خاليةً خلواً يكاد يكون تاماً مما يثير عواطف الأحياء إلى القبول العاطفى أو الرفض العاطفى، لكنه يعرض على من يرونه ويعرفون محتواه أو بعضه من الأحياء يعرض عليهم ما كان يعتقده ويفكر فيه الأقدمون. وهذا يزيد فى مساحة رؤية ومعرفة أولئك الأحياء معرفة تكاد تخلو من الإثارة، وتكاد تكون فى ذلك شبيهة بمعارفهم العلمية الموضوعية البعيدة عن العقائد والعواطف.
الانتماء للذات وأثره على الأصالة والإبداع!
إن رؤية الآدمى لما يواقعه أو ينقله أو يستنتجه مما يتعلق بنفسه أو بمحيطه تكاد تكون خالية تماماً من الأصالة، أو الإبداع. لكنها تصبح رؤيته هو المنتمية إلى ذاته، والمتصلة بشخصه، متى قطعها من مصدرها الخارجى وربطها بأنانيته واختلطت برصيدها المصون الذى يجب عليه عاطفياً أن يخف لحمايته والدفاع عنه، وأن يُسَرّ ويفرح لانتصاره وإكباره. وهذا يحدث كلما ترك الآدمى نفسه ينساق فكراً وسلوكاً مع رؤية حقيقية لها أصدقاء انضم إليهم سراً أو سراً وعلانية، وخصوم خاصمهم سراً أو سراً وعلانية، وصارت بذلك جزءاً من حياته هو فى زمن ما من أزمانها ومراحلها.
أما الأصالة والإبداع، ففروق ذهبية توجد أحياناً فى طينة الآدمى المتشابهة فى الرتابة والاعتياد، فتضىء ما حولها وتترك آثارها المهمة أو الضئيلة، حسب ظروفها، فى الجماعة.. منها ما يتراكم ويدفع الجماعة فى طريق التطور، وأكثرها ينطفئ ويختفى أثره فـى عتامة المحيط التى تبتلعه.
والأصالة والإبداع رؤية شخصية لصاحبها ابتداءً وانتهاءً.. مصحوبة دائماً بحافز أو رديف عاطفى قوى جداً، لكنها لا تكون رؤية لغيره إلّا بالامتثال والاعتقاد على ما أسلفنا.
هل الموافقة أرخص ثمناً؟!
أما الموافقة فهى عادة أقل إيجابية من المخالفة، وأقل احتياجاً إلى الدفاع والتبرير، وأقل تعرضاً لحدة النقد واللوم، ولا تحتاج فى الغالب إلى بذل مجهود غير عادى، وقد تتم بالإيماءة، وأحياناً بالسكوت وعدم الاعتراض. ولذلك فالموافقة تبدو أسلم عاقبة من المخالفة، وأرخص ثمناً وتكلفةً، وأقرب لباذلها نفعاً. لاسيما حين يكثر الموافقون، ولا تتطلب الموافقة مجهوداً أو دليلاً على الإخلاص. وهذا قد أدى إلى وصف رأى الكثرة بأنه موافقة، وأدى إلى وصف الرأى الآخر بأنه معارضة أى مخالفة. هذا وقد يتغير رأى الكثرة إلى غيره أو إلى نقيضه، ومع ذلك يظل موصوفاً بأنه موافقة، بينما يوصف رأيهم الأول بأنه معارضة أو مخالفة ممن يتمسكون به. هذا لأن الموافقة والمعارضة اصطلاح جرى عليه الناس، وقلما تأتى موافقة الكثرة على جديد إلّا متأخرة عن أوانها، مصحوبة بقيود وتحفظات من أجل القديم الذى يصعب على الكثرة العدول عنه أو غسل أيديها منه، ذلك لأن العاديين من الناس محافظون بطبعهم، ينفرون من التغيير، ويميلون إلى استدامة ما ألفوه ودرجوا عليه ما وسعهم ذلك ما دام بلا مشكلة غير عادية تضرهم أو تؤرقهم!
أنماط الخاصة والمترفين
وإلى جانب المخالفة والموافقة على هذا المعنى، توجد أنماط وأطوار فى حياة الخاصة والمترفين، وهذه لا تثبت على حال فى ظاهرها ومشهودها. فظاهرها ومشهودها لا يثبتان لأن أولئك يلتمسون فيها المغايرة والتبديل والتفضيل حيثما يعثرون عليها، ولو لدى الأجانب فى البلدان الأخرى. ثم هم لا يمكن فى الغالب أن يوفقوا فيها فى هذه المغايرات إلى شىء جدى مما ينفع حياة الناس أو يطورها إلى الأفضل. مرد ذلك أن معظم هذه المغايرات يُؤثَر فيها الانفراد والتفرد والنفور أو الفرار من المحاكاة والمشاركة تأكيداً للذات ما كان إلى ذلك سبيل!
المشتغلون بالعلوم والمعارف
أما واقع المشتغلين فى المجتمع بالعلوم والمعارف الموضوعية الصرف، البعيدة أصلاً وفرعاً عن العقائد والعواطف، الذين كان يتوقع منهم بذل المجهود والغيرة على وحدة العقل والنفس لدى الآدمى، فإن واقعهم لا يختلف إطلاقاً عن واقع السواد الأعظم من الخلق فى التعلق بالمعتقدات السائدة والالتزام بها بقدر ما سمحت لهم به ظروفهم، ويبدو أنهم ارتضوا حياة الانقسام العقلى والنفسى، وانفصال العقل الموضوعى الذى يحتكمون إليه ويتبعون أصوله وفروعه فى أشغالهم انفصاله عن العقل العادى الاعتقادى العاطفى الذى يعيش به وعليه عامة الناس، ويبدو أنهم قبلوا هذا العقل كما قبله الآخرون، وأمكنهم تجاهل التناقض القائم حالياً بين العقلين والتصورين والفهمين، ولم يعد هذا القبول مستنفراً لديهم بتاتاً، ولا يفكرون قط فى علاجه لاستعادة وحدة العقل النفسى. فهم ينحازون ويصفقون ويغضبون ويبغضون كما تفعل العامة تماماً لنفس الأسباب والموضوعات، وبنفس الأسلوب والطريقة، كأنهم لا يعرفون ولا يحرزون علوم ومعارف العلم الوضعى، ولا يشتغلون بتعليمها أو تطبيقها!!
وكثيراً ما نرى بعضهم يحاول أن يطوع معطيات العلم الوضعى لتوكيد المصدقات والاعتقادات فى قلوب وأذهان الخلق وفى قلوبهم وأذهانهم هم معهم.
قماشة الآدمى
ويبدو فى طينة الآدمى أنه لا يتحكم فى النهاية إلّا طبيعة هذه الطينة، وأن ضياء العقل جاء عارضاً وسيظل عارضاً مهما سَطَع ورَأَى وفهم ووضح وأنار، وأن بصيرة البشر بصفة عامة، وبالنظر إلى غالبيتهم، لها حد غليظ كثيف، تقف عنده حيناً، وترفض ما زاد عن النور، لأنه لا عمل له ولا فائدة منه، ولا يمكن أن يمتزج بطبيعتها أو يغير أساسها أو خامتها!
وربما ساعد ذلك على أن نفهم معنى «حيوانية» أجسادنا التى لا تكاد تفترق فى أساسياتها وتفاصيلها عن أجساد القردة وغيرها من الثدييات. أياً كان تطور الآدمى، وبالغاً ما بلغ هذا التطور، فإنه لا يحجب هذه الحقيقة حجباً تاماً نهائياً ينسيها أو يزيلها ويلغيها!!
ظنى أن الاختلاف أرجح ما يكون مصباح رؤية لمن يفهمون ويتفاهمون!