روسيا فى سوريا من المساندة إلى التقسيم

جمال طه

جمال طه

كاتب صحفي

اندحار داعش والتنظيمات الإرهابية بسوريا جاء نتيجة لصمود الجيش السورى، والدعم الجوى الروسى، ومشاركة ميليشيات إيران وحزب الله.. النتيجة تمثَّل هزيمة لأمريكا وإسرائيل ودول الخليج التى استهدفت إسقاط النظام السورى وتفكيك الدولة، لذلك سعت لضرب التحالف الروسى الإيرانى.. الاستثمارات الخليجية، وتخفيف العقوبات، أدوات الضغط على موسكو، أما إيران فخضعت للصفقات، معهد الحرب الأمريكى أكد أن بوتين تعهد لترامب بتحييد نفوذ إيران بسوريا، ووقف توسعها بالمنطقة، مقابل عدم استهداف أمريكا للدور الروسى، وذلك فى لقائهما على هامش قمة «آسيا/المحيط الهادى» بفيتنام نوفمبر 2017.. الضربة الأمريكية البريطانية الفرنسية على سوريا بحجة الكيماوى.. عقد اجتماع لمجموعة «الشراكة الدولية ضد الإفلات من العقاب لاستخدام الأسلحة الكيميائية»، المكونة من ثلاثين دولة بباريس، لإنشاء آليات لتحديد المسئولين عن الهجمات ومعاقبتهم.. انسحاب أمريكا من الاتفاق النووى.. وتدمير البنية التحتية العسكرية لإيران وحزب الله.. كلها إجراءات وفرت المبررات لروسيا للضغط على إيران بشأن الانسحاب.

سوريا لم تستعن بروسيا فى مواجهة جحافل الإرهابيين، إلا عندما تأكدت من عجز الميليشيات عن مواجهتهم، وأصبحت الدولة مهددة بالسقوط، التدخل الروسى بدأ سبتمبر 2015، بتوقيع اتفاق إنشاء القاعدة الجوية الروسية فى «حميميم»، وهو اتفاق مفتوح المدة، أعقبه اتفاق يناير 2017 الذى ضم قاعدة طرطوس البحرية لمناطق النفوذ الروسى، وقنن وجوده العسكرى بسوريا لمدة 49 عاماً، تمدد تلقائياً لفترات مدة كل منها 25 عاماً، ودون مقابل، الاتفاق يُغِل يد الدولة السورية عن كل ما يتعلق بالقواعد، ويعطى حصانات مطلقة للعسكريين الروس، لكنه لم يقنن علاقة سوريا بروسيا باعتبارها حليفاً عسكرياً، وليس شريكاً سياسياً، بل منح روسيا كل حقوق وصلاحيات الدولة المستعمرة، لا على القواعد فحسب، بل وتم نشر نقاط عسكرية متحركة لها خارج نطاقها؛ لحمايتها والدفاع عنها.

روسيا وظفت المشكلة السورية لصالحها، تركيا تقليدياً تمثل رأس حربة «الناتو» الموجه لها، أمريكا شريكتها فى الحلف رفضت طلباتها المتكررة بإنشاء مناطق عازلة وملاذات آمنة، كمبرر لتوسيع مناطق نفوذها بسوريا، لكن روسيا أطلقت يدها، منحت قواتها حق الرقابة على أهم مناطق خفض التوتر بالشمال السورى.. أعطت لها الضوء الأخضر لشن عملية «درع الفرات» أغسطس 2016/مارس 2017، التى سيطرت بمقتضاها على 2200 كم2 من الشريط الحدودى الملاصق لها.. ثم عملية «غصن الزيتون» 20 يناير 2018، التى احتلت عفرين، ومدت نفوذها على كامل الحدود السورية غرب الفرات.. موسكو أخطرت سوريا بأن الأوضاع فى عفرين والشمال تحكمها التفاهمات الروسية/التركية/الإيرانية، وبالتالى أضحت مغلقة فى وجه القوات الحكومية!!، والأغرب تعاقدها مع أنقرة لتزويدها بشبكة صواريخ S-400، أقوى وأحدث نظام دفاع صاروخى فى العالم، متجاهلة أنها تُسلم لعضو بـ«الناتو».

الخلافات الروسية السورية ظهرت فى اجتماع نادى فالداى للحوار، أهم المنابر الروسية للسياسة الخارجية «فبراير 2018»، لافروف وزير الخارجية الروسى أبرز جهود تسوية المشكلة سياسياً، بثينة شعبان مستشارة الأسد ردت بأن دمشق ستعلن قريباً «النصر النهائى»، فيتالى نومكين، مدير معهد الدراسات الشرقية بأكاديمية العلوم ومستشار الحكومة أكد أن «هذا النصر العسكرى مجرد وهم، لا يمكن تحقيقه فى ساحة القتال».. خلاف آخر بوزارة الدفاع الروسية بين حمائم يدعون للخروج من سوريا، بعد هزيمة داعش، وهو الهدف من التدخل، وصقور يتمسكون بالبقاء، لأن سوريا ساحة لتدريب القوات على مكافحة التنظيمات المتطرفة، وميدان لاستعراض الأسلحة، ثانى مصدر للدخل بعد النفط.. فضلاً عن تحقق الحلم الاستراتيجى القديم بالوصول لمياه المتوسط الدافئة.

«الأسد» فوجئ باجتثاث إسرائيل للبنية التحتية العسكرية لإيران بعد ساعات من استقبال بوتين لنتنياهو بموسكو، وتراجع روسيا فى اليوم التالى عن تسليم شبكة الدفاع الجوى S-300 لسوريا، فتوجه على الفور لسوتشى للقاء بوتين «17 مايو»، ليفاجأ بالموقف الروسى دون تجميل.. «بوتين» دعا أولاً إلى انسحاب كل القوات الأجنبية من سوريا، وألكسندر لافرنتييف، مبعوثه الخاص، أوضح أن ذلك يشمل قوات إيران و«حزب الله» أسوة بقوات تركيا وأمريكا.. وأكد ثانياً سرعة بدء العملية السياسية بتعديل الدستور وفقاً للمسودة التى صاغتها موسكو فى يناير 2017، وكشف لافروف عن التحضيرات الجارية لعقد جولة مباحثات جديدة بسوتشى يوليو المقبل، ويتضمن جدول أعمالها إعلان الدستور الجديد، تنظيم انتخابات عامة برعاية الأمم المتحدة، حل القضايا الإنسانية، ووضع برنامج شامل لإعادة الإعمار.. فيصل المقداد، نائب وزير الخارجية السورى، اجتهد مؤكداً أن بقاء أو انسحاب القوات التى وجدت بسوريا بدعوة من حكومتها، مثل إيران وحزب الله، هو شأن يخص دمشق و«غير مطروح للنقاش».. ولكن قضى الأمر، الأردن طالب بإبعاد الميليشيات 25 كم عن الحدود، وإسرائيل مدّتها لـ60 كم، روسيا قصرت الوجود بالحدود على الجيش السورى، الاستعدادات الخليجية جارية لدفع قوات للحلول محل القوات الأمريكية، والأسد وافق على إرسال قائمة المرشحين للجنة الدستورية لـ«تعديل الدستور».. مخطط إدارة الدولة السورية يتم بعيداً عن سلطاتها الدستورية.. والأطراف الإقليمية كلٌ يؤدى دوره المرسوم له بكل دقة.

النظام السورى أضحى يسيطر على قرابة نصف مساحة سوريا، القوات الأمريكية تتجاوز 2000 عسكرى، ينتشرون فى 20 موقعاً، بشمال شرق سوريا، يدعمون قوات سوريا الديمقراطية الكردية لإحكام السيطرة على ثلث مساحة الدولة، بشرق الفرات ودير الزور، وهى منطقة هامة استراتيجياً، لأنها تقطع التواصل بين إيران وحزب الله عبر الحدود السورية/العراقية، واقتصادياً تضم 90% من إنتاج النفط، و45% من إنتاج الغاز، و40% من إنتاج الكهرباء.. تركيا والميليشيات التابعة تسيطر على النسبة الباقية.. أمريكا لا تريد إغضابها بإنشاء كيان سياسى للأكراد، لكنها تتعجل الدستور «الروسى»، الذى يتضمن لا مركزية الأقاليم على النحو الذى يمنحها درجة عالية من «الاستقلالية» «تُجيز» لها إبرام صفقات واتفاقات تعاون عسكرى مع الخارج، ما يضفى مشروعية قانونية على بقاء القوى المحتلة.. كنا من أنصار التدخل الروسى لمساندة النظام السورى، من واقع تجربتنا الإيجابية مع الاتحاد السوفيتى، لكننا نندهش من تراجع المبادئ وطغيان البراجماتية والمصالح.. حتى لو تحفظوا على القيادة السورية، فليس معنى ذلك أن يفرضوا على الشعب دستوراً من صناعتهم.

كلما تأملنا ما يدور حولنا، ندرك نعمة الجيش الوطنى، القادر على مواجهة التحديات، دون استعانة بقوة خارجية، قد تتحول بفعل المصلحة والصفقات إلى قوة احتلال.. اللهم احفظ بلادنا.