كيف فقد «داعش» سلاحه الفعال؟

لا يكاد يمر يوم دون أن نسمع أن إحدى الشركات الكبرى العاملة فى مجال الإنترنت على الصعيد العالمى اتخذت قراراً، أو قامت بإجراء، يهدف إلى الحد من الأنشطة الإرهابية لتنظيم «داعش» على الشبكة.

بسبب الحملة العالمية المنسقة على المحتوى ذى الطابع الإرهابى والمشجع على العنف، يتقلص هذا المحتوى ويضعف أثره، على العكس تماماً من السنوات الست السابقة، التى شهد خلالها ازدهاراً غير مسبوق.

ورغم ذلك، فلا يمكن القول إن تنظيم «داعش» انتهى، وإنه لم يعد قادراً على تهديد أمننا، فما زال هذا التنظيم قادراً على القيام ببعض الأدوار الخطرة التى دأب عليها منذ إطلالته الشريرة على المشهد الإقليمى والعالمى.

يستطيع «داعش» اليوم أن يجند أفراداً، وأن يدفعهم إلى شن عمليات إرهابية، وأن يبث سمومه عبر بعض الوسائط الإعلامية، فيحرض على العنف، ويشيع التمييز، وينشر الكراهية، لكنه فقد معظم قدراته الاستراتيجية.

ولذلك، لا يمكن اعتبار أن «داعش» بات جزءاً من الماضى، أو أنه تحول من آليات ووقائع ملموسة على الأرض إلى مجرد أفكار، لكن يمكن القول إن «داعش» هُزم استراتيجياً، وإنه لم يعد بوسعه إحداث تغيير استراتيجى فى مسار السياسات الوطنية والإقليمية والدولية.

ليس هذا احتفالاً بالنصر، ولكنه محاولة لفهم الطريقة التى تم عبرها إجهاض محاولات «داعش» للتحول إلى دولة ذات ارتكاز ترابى وسيادة، وإلى لاعب عالمى يمكن أن يرسى استراتيجيات، ويغير فى مسارات السياسة الإقليمية والدولية.

لقد فقد «داعش» نحو 98% من الأراضى التى كان يسيطر عليها، خصوصاً فى سوريا والعراق، بعدما اتسع نطاق سيطرته سابقاً ليشمل أراضى تعادل ثلثَى مساحة بريطانيا.

مع الانحسار الترابى للأراضى التى كان يسيطر عليها «داعش» ينكمش التنظيم ويتراجع أثره، لكن الأهم أن ذلك الانحسار رافقه تراجع حاد وواضح فى نطاق سيطرته الاتصالية.

لم يكن بوسع العالم أن يهزم «داعش» استراتيجياً، كما هو حادث الآن، من خلال عمليات القصف والقتال الميدانى (التى كان لها أثر كبير من دون شك) فقط، لكن هذا النصر لم يكن ليتحقق من دون هزيمة «داعش» فى ميدانه الأثير.. الإنترنت.

هزيمة «داعش» لم تكن ممكنة من دون تقليص المساحات التى احتلها فى الفضاء الاتصالى الإقليمى والعالمى، عبر استراتيجيته الشرسة للتمركز اتصالياً، وهى الاستراتيجية التى لاقت نجاحاً مبهراً مع صعود التنظيم. لم تكن هزيمة «داعش» ممكنة من دون تقليص نفوذه الاتصالى.

يبدو أن دولاً وأجهزة استخبارات عالمية أدركت الخطر المتولد عن إتقان «داعش» لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعى فى أنشطته الإرهابية منذ سنوات، ففى أكتوبر من العام 2014، حل الجنرال جون آلين، المنسق الأمريكى للتحالف الدولى ضد «تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش)، ضيفاً على الكويت، لحضور اجتماع بين دول التحالف، بشأن تنسيق الجهود ضد الدعاية الإعلامية للإرهابيين.

ومن بين ما قاله الجنرال الأمريكى على هامش هذا الاجتماع إن دول التحالف نجحت فى تكبيد «داعش» خسائر كبيرة على مستوى العتاد والأفراد، لكنها أخفقت فى مواجهته فى ساحة «الإنترنت»، بعدما اعتبر أن هذا التنظيم يمتلك «ماكينة دعائية رهيبة».

امتلك «داعش» استراتيجية إعلامية متكاملة، وتلك الاستراتيجية حولت القدرات الاتصالية التى يمتلكها التنظيم إلى «أداة قتال رئيسية»، ويمكن القول إن تلك الأداة بالذات كانت الأكثر فاعلية ونجاعة بين الوسائل المختلفة التى استخدمها لتحقيق أهدافه.

أوضحت دراسات عديدة حجم المنظومة الإعلامية/ الدعائية التى استخدمها «داعش»، وتنوع وسائلها، وبات من المعروف أن تلك المنظومة تشكل آلية للدعاية، والاستقطاب، والتجنيد، والاتصال الميدانى، والتعبئة، والتدريب، وإصدار التكليفات، وصولاً إلى تنفيذ العمليات الإرهابية.

وأشارت تلك الدراسات إلى أن 80% من الأعضاء الذين تم تجنيدهم للانضمام إلى «داعش» فى أوروبا أتوا عبر «الإنترنت»، وأثبتت أن «داعش» استطاع، فى فترة ازدهاره، أن يجند شهرياً أكثر من 3400 عنصر عبر حملات إلكترونية.

ويفسر نيك أوبرايان، الرئيس السابق لوحدة مكافحة الإرهاب فى الشرطة البريطانية، أسباب النجاح الباهر لـ«داعش» فى استخدام وسائل التواصل الاجتماعى، بقوله: «إنها وسيلة تكنولوجية رخيصة الثمن، ويسهل التحكم فيها، سواء من مغارة فى جبال أفغانستان، أو من أى مقهى فى أى مدينة، قرب حاسوب مرتبط بالأقمار الاصطناعية.. فالتغريدة لا تكلف شيئاً».

بسبب إدراك «داعش» للتطورات الاتصالية التى تحكم عالمه، استطاع أن يسخّر تلك التطورات من أجل توسيع نطاق نفوذه، وهو أمر لم يكن بالوسع مواجهته من دون استراتيجية عالمية بدأت نتائجها فى الظهور قبل سنتين.

فى ذروة ازدهار التنظيم امتلك شبكة إعلامية ضخمة ومؤثرة، تكونت من مئات المدونات، كما طور التنظيم عدداً من المنتديات الإلكترونية، التى عملت كحاضنات إرهابية واستقطبت أفراداً من مجتمعات عدة، مثل منتديات «النصرة الجهادية»، و«شبكة حنين»، وشبكة «الزرقاوى».

واستطاع التنظيم أن ينتج العديد من المواد الإعلامية جيدة الصنع، والتى حظيت بانتشار وتأثير بالغين، ومنها مؤسسة «الفرقان»، و«الاعتصام»، و«الحياة»، و«أعماق»، و«البتار»، و«دابق»، و«أجناد»، وغيرها.

لقد أدركت الدول الكبرى أن هزيمة «داعش» لا يمكن أن تتحقق من دون تقليم أظافره على الشبكة، وهو الأمر الذى أدى إلى تعزيز مطالبات دول مثل الصين وروسيا بإخضاع الفضاء الإنترنتى لمقتضيات السيادة الوطنية.

فى دراسة صدرت خلال الشهر الحالى، أعلن مرصد الأزهر أن «المكافحة الإلكترونية» لنشاط «داعش» على الإنترنت أثمرت تراجعاً فى وجود التنظيم عبر الشبكة.

وقالت الدراسة إن إصدارات «داعش» انخفضت بشكل ملحوظ، وبات هناك قدر واضح من التأخر فى إصدار البيانات، وسقطات فى الترجمة، وتراجع مستوى الإنتاج فنياً بصورة واضحة، فلم تعد الصور والفيديوهات تصور بذات الجودة التى عرفتها الإصدارات الأولى للتنظيم.

لا يمكن إغفال أثر العمليات الميدانية التى استهدفت «داعش» فى تفكيك قدراته الاتصالية، فعبر تلك العمليات تم ضرب مقار الإنتاج الإعلامى للتنظيم، كما تم حرمانه من التمويل السخى، فضلاً عن القضاء على العناصر القيادية فى استراتيجيته الاتصالية، مثل أبومحمد العدنانى، وأحمد أبوسمرة، الذى كان مسئولاً عن مواقع التواصل الاجتماعى.

لكن التنسيق الدولى بين عدد من الدول الكبرى، والضغط على الشركات المسئولة عن تشغيل مواقع التواصل الاجتماعى، مثل «فيس بوك»، و«تويتر»، و«يوتيوب»، أثمر تحولاً جوهرياً، وأدى إلى إغلاق ملايين المواقع والحسابات التى استخدمها التنظيم فى بث رسائله وترويج دعايته.

لم تكن هزيمة «داعش» ممكنة من دون إرادة دولية، وآليات ذكية، استطاعت محاصرة التنظيم على الشبكة العنكبوتية، وحرمته من وسيلة سهلة استغلها ببراعة لنشر إرهابه.

كانت الشبكة العنكبوتية هى ميدان تفوق «داعش» الذى يحب أن يلاقى أعداءه فيه، وكانت مواقع التواصل الاجتماعى هى سلاحه الفعال، وها هو يخسر الاثنين.