الإذاعة المصرية فى عيدها
- أدب الرحلات
- الإذاعة المصرية
- الإنسان المصرى
- التأليف المسرحى
- الدول النامية
- الرقص الشعبى
- الموسيقى الكلاسيكية
- ترجمة حية
- حاسة السمع
- دور الأوبرا
- أدب الرحلات
- الإذاعة المصرية
- الإنسان المصرى
- التأليف المسرحى
- الدول النامية
- الرقص الشعبى
- الموسيقى الكلاسيكية
- ترجمة حية
- حاسة السمع
- دور الأوبرا
حلَّ مع شهر مايو الماضى عيد إنشاء الإذاعة المصرية فى مايو سنة 1934، ومنذ أنشئت من أربعٍ وثمانين سنة، وهى راعية الفكر والأدب والثقافة، وحاملة مشعل الحضارة إلى الإنسان المصرى والعربى حيث كان. لا تحدها حدود ولا جبال ولا كهوف، ولا فيافى ولا قفار، ولا تكلف متلقيها عناءً، تصله مجانيةً وهو خالد إلى نفسه، وهو يركب الطائرة أو السيارة أو القطار، وهو يمتطى الدابة أو يحرث فى الحقل، وفى أرجاء النوادى والورش والمصانع، لا تطلب منه تهيؤاً خاصاً، بل هى تواليه حتى وإن كان منشغلاً بقراءة أو كتابة، أو قائماً بعمل يدوى، تؤنس وحشته فى وحدته، وتكفكف أحزانه، وتدفع إليه الرضا والمسرة، وتنير عقله وتوسع معارفه، وتزجى وقته بكل ما هو ثرى ومفيد ونافع.
قدرة الراديو أو المذياع على الانتشار أوسع، ثم هو لا يتطلب لتلقيه حالة خاصة كحالة المشاهد للمرئيات، الذى يجب عليه أن يكرس حاسة النظر للاستقبال والتلقى مع باقى الحواس.. فاستقبال المذياع بالأذن يعفى المتلقى من التهيؤ الخاص الذى تستلزمه مشاهدة المرئيات. الاستماع إلى الإذاعة هو على الدوام استماع مجانى بلا تشفير وبلا أى عوائق وبلا أى تكلفة.. لذلك كان الاعتماد على الإذاعة المسموعة أكثر عراضة وجدوى وفاعلية من غيرها. يستطيع أن يتابعها العالم والجاهل، والعارف والأمّى.
بناء العقل وتخصيب الخيال
قدرة الإذاعة المسموعة على بناء العقل وتحريك وتخصيب وإثراء الخيال، لا يمكن أن تضارعها الوسائل المرئية. الصورة التى تطرحها المرئيات تشد المشاهد إلى تضاعيفها وزواياها وأركانها وألوانها، وتسحب بانشغال المتلقى بالمشاهدة البصرية من انطلاقات الخيال، بينما الإذاعة المسموعة بغير مشهد مرئى، تطلق العنان لسبحات المتلقى فى تخيل المسامع التمثيلية والدرامية وغيرها بأكثر مما تقدر عليه المشاهد المرئية. المشهد المرئى يفرض صورة معينة محددة، بينما لا يصادر المسموع على خيال المتلقى، بل يدعو إلى إعمالة لمعايشة ما يسمعه معايشة يصبح المتلقى نفسة طرفاً فيها.. لو سألت كل من استمعوا إلى تمثيلية «على بابا والأربعين حرامى» التى أخرجها الإذاعى الفلتة المرحوم عبدالوهاب يوسف، لوجدت لكل واحد منهم تصوراً وخيالاً خاصاً لشكل كل فصل من فصولها ومسمع من مسامعها.. سوف تجد لكل مستمع تصوراً وخيالاً لكل مشهد سمعه ولم يره فطفقت مخيلته تسبح فى تجسيدة ليعيش فيه. هذه الخاصية هى التى تعطى للإذاعة المسموعة مساحة عريضة لبناء العقل ولتحريك وتخصيب وإثراء المخيلة، وهى جزء أساسى فى معادلة قدرة الآدمى على الفهم والتدبير والتخطيط والفعل.
أداء رفيع
تأمن الإذاعة المسموعة مما يمكن أن يصاحب بعض «مشاهد» المرئيات التليفزيونية أو السينمائية أو الإلكترونية مما يثير الشهوات والغرائز التى ربما صرفت المتلقين عن المتابعة المتأملة المركزة فى الفكرة. مساحة الجد والموضوعية والعمق وتحريك الفكر فيما تقدمه الإذاعة المسموعة مساحة عريضة يعز على المرئيات أن تجاريها فيها، أو أن تلاحق قدرتها على التواصل مع الناس حيث كانوا.. فى الحقل أو المصنع أو الورشة أو بالسيارة أو على الدراجة أو المطية أو فى الحديقة والمضمار؛ حيث يستطيع الراغب أن يستقبل ما يريد متى شاء وفى مجانيةٍ مطلقة لا تكلفه شيئاً، ولا تعوقه حتى الأمية عن التحصيل والفهم. ظنى أن الدول النامية على التخصيص أكثر ما تكون حاجة إلى تشجيع الإذاعات المسموعة والاهتمام بها مادة وتهيئةً وانتشاراً، لأنها وسيلتها المجانية المتاحة للفقراء مع الأغنياء، والأميين مع المتعلمين، ويكفل لها بثها القيام بكافة الوظائف العقلية والفكرية والثقافية والمعرفية والإعلامية.. ويمكنها من بناء الثقافة وتنوير العقل وإثراء المخيلة التى تتعانق مع العقل فى توجيه الفكر والسلوك الإنسانى!
لسنا ضد المرئيات
لست ضد «الصورة» أو المرئيات بعامة، ولا أهون منها.. فلها دورها الخاص الذى لا تبارى فيه، فيما لا يمكن تقديمه إلاّ بالصورة وتحصيله بالحاسة البصرية. لا يمكن تصور الاطلاع على الفنون التصويرية أو التشكيلية بغير الصورة، ولا متابعة الأوبرا والأوبريت ولا فنون الأراجوز والرقص الشعبى والرقص التعبيرى بغير المشاهد المرئية، وإنما أردت أن أشير إلى أن للإذاعة المسموعة مجالها الخاص والأوسع الذى لا تبارى فيه، ولا تعدم الوسائل لدور متميز فى مجالات تتفوق فيها برغم غياب الصورة لما يمكن أن تثيره من التركيز والخيال.
الإذاعة واللغة
خدمة اللغة محصولاً، وضبطها نحواً وصرفاً مهيأة فى الإذاعة المسموعة بصورة لا تتاح بذات القدر والتأثير لغيرها.. يكفيك أن تراجع إلمام وأداء نجوم الإذاعة، لترى بوضوح أنهم كانوا ولا يزالون أصحاب الباع الذى من عباءته خرجت عناصر المرئيات التى تواصلت وحفظت ما خطه السابقون فى الإذاعة، وعبّدوا به طريقاً لا تزال العناية به فى مجال اللغة وضبطها أميز فى الإذاعة المسموعة عما عداها. هذه إحدى الوظائف المعرفية والتثقيفية المهمة التى أدتها وتؤديها الإذاعة بكفاءة ملحوظة ومتميزة تضفى على مادتها بعامة قدراً أكبر من الجد والموضوعية والرصانة التى تسرب قيمها إلى الناس فى سلاسة تلقائية بلا اصطناع.
الإذاعة والتركيز
فيما عدا المشاهد التى يندمج فيها النغم مع الصورة، كالأوبرا والأوبريت والرقص الشعبى أو التعبيرى، فإن معايشة النغم المجرد والتركيز مع اللغة الموسيقية فهماً وتذوقاً وطرباً، متاح فى المسموع أكثر من المرئى.. نعم الصورة تعطى إضافة غير منكورة للمشاهد الموسيقية إن جاز التعبير فى العزف الأوركسترالى والسيمفونى وفى السوناتا وفى غيرها مما بات متعة للمشاهد المستمع فى صالات العزف والعرض وفى دور الأوبرا وفـى المرئيات الأرضية والفضائية، ولكن «الإنصات» المركز بحاسة السمع يعطى المتلقى تركيزاً أكثر مع النغم ومع الطرب وربما جنبه الانشغال بحركة أو شكل العازف عن المزيد من التركيز فى النغمة أو الجملة الموسيقية واستحضار وتخيل المشاهد التى ترويها المتتابعات السيمفونية.
قدرة البرنامج الموسيقى على نقل الكلاسيكيات والموسيقى الحديثة، قدرة مشهودة جذبت أعداداً هائلة من عشاق الموسيقى، ولا نزال نذكر ونسمع أحياناً شروح الدكتور حسين فوزى للسيمفونيات والكونشيرتوهات والسوناتات والمتواليات وكيف استطاع أن يقرب أسرار وفنون الموسيقى الكلاسيكية للمستمعين. لا أقول هذا غضّاً مما يحصله المتلقون من متعة وإشباع فى الاستماع المقرون بالمشاهدة فى دور العرض ودور الأوبرا والمرئيات بعامة، وإنما قصدت أن أستحضر ما فى الإذاعة المسموعة من تعويض يتعانق مع باقى المزايا التى لمحت إلى بعضها للدعوة إلى المزيد ومزيد المزيد من الاهتمام بالإذاعة المسموعة إيماناً منى بأنها أكثر الوسائل مقدرة على توصيل خدمات تنويرية تثقيفية سهلة ميسورة للمتلقين فى كل مكان وزمان وفى جميع الأحوال.
سعة المضمون وثراء المواد
انعكست هذه العناصر التى تميزت بها الإذاعة المسموعة على اختياراتها لمادتها، وعلى ضوابط ومعايير اختيار الإذاعيين الذين كانوا فى الواقع ترجمة حية عن هذه المكونات، ترددت أصداؤها فى اهتماماتهم وثقافتهم الموسوعية التى رأينا من خلالها نجوماً كباراً من الإذاعيين لم تقتصر مواهبهم على طلاوة الصوت أو تميز الأداء والإلقاء، وإنما أيضاً فى مجالات موسوعية رأينا من خاضها منهم فى الأدب والرواية والشعر والمسرح والتأليف الدرامى والترجمة والكتابة السياسية.. من رحاب الإذاعة خرج نجوم فى التأليف الروائى، وفى الأدب الشعبى، وفى التأليف المسرحى، وفى الشعر والنقد، ورأينا منهم الشاعر والروائى والمسرحى والمجمعى والأديب والمترجم والكاتب السياسى.. أُعجبت شخصياً عبر السنين بأديب متميز وإذاعى فذ جمع طلاوة الصوت وعبقرية الأداء.. نظم الشعر، وكتب للمسرح، وألف التمثيليات والمسلسلات الدرامية والكوميدية والتاريخية، وقدم درراً فى الترجمة، وكتب فى أدب الرحلات، وفى الدراسات الأفريقية والسياسة بعامة.. وكان نموذجاً للإذاعى الموسوعى الذى فهم دور الإذاعة التنويرى والتثقيفى، بذلك تستطيع الإذاعة المسموعة أن تحمى العقل الجمعى، وأن تقدم ما ينهض به ويثريه، وينمّى الفكر ويخصب الخيال والإبداع.