تونس ليست الإجابة دوماً.. ربما السؤال أيضاً! (2)

خالد عكاشة

خالد عكاشة

كاتب صحفي

ذكرنا فى الحلقة الأولى لتلك السلسلة؛ أنها معنية بنقل بعض من رؤوس الموضوعات والمحاور، التى تناولها مؤتمر وورشة العمل «عناصر داعش ما بعد سوريا والعراق»، اللذين قام على تنظيمهما «المركز الدولى للدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية» بالعاصمة تونس، ونعيد التذكرة بأن الساحة محل البحث؛ تركزت بشكل رئيسى على دول الشمال الأفريقى، ومنطقة دول الساحل والصحراء التى تقع فى جنوبها.

ولذلك جاءت الفقرة الأخيرة بالمقال السابق، لتلقى الضوء على «الحالة الليبية» على وجه الخصوص، وسط عموم المنطقة التى نتحدث عنها، وننقل هنا الجملة الافتتاحية للفقرة باعتبارها تلخص وجهة النظر التى طرحتها بالمؤتمر، وهى جاءت كالتالى: «ولهذا يظل الاختراق الليبى؛ هو التهديد الذى نجح فى صناعة أكبر منطقة رخوة، يمكنها أن تظل منتجة للفوضى بأشكالها المتنوعة».

والمقصود هنا بالاختراق، هو تخطيط الجماعات الإرهابية لاستغلال الأراضى الليبية، ووضعها السياسى والأمنى الداخلى فيما بعد سقوط النظام السابق فبراير 2011، لتكون لليبيا ثمة خصوصية، على أكثر من محور وظيفى للتنظيمات الإرهابية، ربما تركزت فصوله الأولى فى عملية تجميع وإعداد لـ«المقاتلين» الذين تم الدفع بهم إلى الساحة السورية، تحت لافتة الانضمام للمعارضة المسلحة المناهضة للنظام السورى، الذين تبين لاحقاً أن أغلبهم انقسم ما بين الانضمام إلى «داعش» أو «جبهة النصرة»، باعتبارهما التنظيمين الأكبر، والأخير كان الممثل لتنظيم «القاعدة» فى سوريا، تبدلت أسماؤه أكثر من مرة وأجرى العديد من التحالفات مع تنظيمات محلية أصغر، حتى استقر فى النهاية الآن تحت تسمية «هيئة تحرير الشام».

تنظيم «القاعدة» وفروعه فى سوريا وفى ليبيا أيضاً، قد يكون له أحداث وحديث مختلف إلى حد ما، وباعتبارنا نتناول اليوم تنظيم «داعش» بحسب المؤتمر التونسى، لذلك نعود لما أصدره «داعش» فى أوج سطوته وسيطرته على ما أطلق عليه «الدولة الإسلامية»، وكان هذا فيما يخص ليبيا فى تاريخ مبكر له دلالته، حيث أصدر التنظيم فى يناير 2015 وثيقة باللغتين العربية والإنجليزية، بعنوان «ليبيا البوابة الاستراتيجية للدولة الإسلامية»، وجاء ذلك بهدف إقناع الجهاديين فى العالم، بأهمية ليبيا للدولة الإسلامية، من أجل تشجيعهم على الانضمام لها (كما هو الحال فى العراق وسوريا، حيث يشكل الأجانب جزءاً كبيراً من مقاتلى التنظيم)، وقد كان هذا إيذاناً للانتقال من الفصل الأول، الذى اقتصر على التجميع والتأهيل والضخ البشرى من ليبيا إلى خارجها، ليبدأ فصل جديد بعد شهور من إعلان الدولة والخلافة الإسلامية التى ظهرت للنور فى يونيو 2014، حيث أظهرت المرحلة الثانية حجم اهتمام «داعش» بتأسيس ودعم الفروع الرئيسية له بخارج حدود دولته، لذلك جاءت الوثيقة لتنظر وتفسر أهمية وضرورة الدفع بالاتجاه العكسى نحو ليبيا.

بصورة موجزة؛ جاءت أهم الدلالات التى حملتها وثيقة «داعش»، لتنفى الاعتراف بوحدة الدولة الليبية، لذلك فهى تقسم ليبيا إلى ثلاث ولايات، دون المساس بمسمياتها التاريخية القديمة، وهى (ولاية برقة) فى الشرق، و(ولاية طرابلس) فى الغرب، و(ولاية فزان) فى الجنوب الغربى، واعتبر تنظيم «داعش» أن ليبيا لديها العديد من الميزات الجيوستراتيجية (البحر، والصحراء، والجبال)، وتحدها ست دول، هى مصر، والسودان، وتشاد، والنيجر، وتونس، والجزائر. وأيضاً لديها ساحل المتوسط الشمالى الطويل، الذى يطل على دول جنوب أوروبا، يمكن عبره الوصول إليها بالوسائل الرخيصة الكلفة والإمكانيات. كما اعتبر التنظيم أن هناك وفرة من الأسلحة والذخائر الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، المخزنة ما قبل سقوط النظام السابق، وما جاء إلى ليبيا بعده، كما أن إيرادات النفط والغاز يمكن الوصول بها لتتراوح ما بين (35 و40) مليار دولار سنوياً. فيمكن حينها لـ«داعش» والميليشيات المتحالفة معه استخدام هذه الأسلحة، ويرى أيضاً هناك فرصاً متاحة للاستحواذ على بعض من النفط والغاز، للاتجار بها فى السوق السوداء، كاستنساخ لتجربته فى العراق وسوريا، فضلاً عن الإمداد بالسلاح، والقدرة على الإنفاق على مشتملاته، إلى البلدان الأخرى التى بها فروع لمحاربة الأنظمة المحلية.

الوثيقة الداعشية تحمل الكثير من الرؤى الاستراتيجية للتنظيم؛ والأحداث على الساحة الليبية فيما تلى تاريخ إصدارها تؤكد استجابة والتزام عناصر «داعش» واستهدافهم السير على منهج ما ورد فيها، من دون الدخول فى تفاصيل الأحداث الطويلة والمريرة التى شهدتها ليبيا، لكن ما يمكن الإشارة إليه أن الجيش الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر، تمكن من إجهاض مخطط التنظيم فيما يخص (ولاية برقة) وجزئياً فى (ولاية فزان)، حيث تلقى التنظيم هزيمة مذلة على أيدى وحدات القوات المسلحة الليبية فى كل من بنغازى وسرت، وتمت السيطرة وتطهير الغالبية من مدن الشرق والجنوب الليبى، كما استطاع الجيش الليبى أن يضمن حماية المثلث النفطى ليظل حتى الآن تحت يد الدولة الليبية.

لكن المفارقة أنه بعد ساعات من نشر الحلقة الأولى من تلك السلسلة، التى أشرنا فيها إلى بعض من خطط «داعش» تجاه ليبيا، نفذ التنظيم عملية هجوم إرهابى بتفجير «مقر مفوضية الانتخابات»، وسط العاصمة طرابلس، وهو ما كان سبباً فى إفراد بعض من المساحة لتناول بعض من التفاصيل، المتعلقة بـ«داعش» فى ليبيا، وفى هذا يمكن الإشارة أيضاً إلى الكشف عن «تقرير استخباراتى»، وجد طريقه إلى بعض من وسائل الإعلام تعليقاً على الهجوم الإرهابى الأخير، أهم ما جاء فيه أنه رصد ارتفاع عدد مقاتلى «داعش» فى الغرب الليبى من نحو 150 إلى 800 مقاتل، ومن بينهم جنسيات غير عربية، ويرجح التقرير أن هناك مئات آخرين من المتطرفين المحليين، يعملون مع التنظيم ويوفرون له مسارات للتحرك ومقار للاختباء، الأكثر إثارة للقلق فضلاً عن القدرة على تنفيذ هجوم بهذا الحجم وسط طرابلس، هو أن تلك القفزة العددية التى جرت فى مدن (ولاية طرابلس) بحسب مخطط التنظيم، عن فترة زمنية لم تتجاوز الثلاثة أشهر مضت!