النحت على «المرمر».. مهنة توارثها أهل «القرنة» عن الفراعنة

النحت على «المرمر».. مهنة توارثها أهل «القرنة» عن الفراعنة

النحت على «المرمر».. مهنة توارثها أهل «القرنة» عن الفراعنة

غير بعيد عن مقابر القدماء فى البر الغربى، يستقرون داخل منازلهم، ومحالهم المزينة بصور «الفراعنة»، متراصين بطول طريق قرية «القرنة» القديمة، وسط الصحراء الفسيحة.

هنا حيث أصوات الدق والتكسير، يعيش ويعمل من ينحتون فى الصخر على طريقة القدماء المصريين، ليخرجوا بأبهى صورة لتماثيل مقلدة للفراعنة القدماء، ليبيعوها لزائرى المقابر والمعابد، هم مقلدون ومبدعون فى نفس الوقت، تتحول بين أيديهم صخور المرمر أو «الألباستر» شديدة الصلابة إلى شىء طيع يشكلونه كيفما يشاءون.

توارث أهالى قرية القرنة، التى تستقر أقصى جنوب محافظة الأقصر بالبر الغربى، مهنة صناعة «الألباستر»، منذ عهد الفراعنة، مثلما ورثوا أيضاً فن استخراجه، وتحويله إلى تحف فرعونية وتماثيل للملوك، وتصاميم للمعابد، وهو ما يهواه السياح المقبلون على زيارة المعابد فى البر الغربى.

{long_qoute_1}

ولكن الأبناء أصبحوا يفرون الآن من تلك المهنة الشاقة، لصعوبتها وثقل العمل بها، الذى يبدأ من الصباح الباكر بجلب حجر «المرمر» أو «الألباستر» بالإنجليزية، ذلك الحجر شديد الصلابة، الذى يظهر فى ثلاثة ألوان هى: الأبيض والبرتقالى والأخضر.

على ظهور الحمير والجمال يأتون بالمرمر من جبال على بعد 200 كيلومتر تقريباً من «وادى الملوك»، لعدم قدرة السيارات على صعود تلك الجبال والسير بين الممرات الجبلية الوعرة هناك.. تأتى الأحجار فى أحجام ضخمة، حيث يبدأون فى تقطيعها قطعاً صغيرة، تصلح للنحت.

أمام أحد تلك المحال، يستقر «محمد دردير» بجلبابه الجنوبى، وبشرته شديدة السمرة، و«عمته» المستديرة البيضاء، حيث تتشكل تحت يديه إحدى قطع الأحجار، يعمل «دردير» فى تلك المهنة منذ 30 عاماً، ويقول إنه بعد تقطيع تلك «البلوكات» الحجر، تبدأ المراحل الأولى من التصنيع، حيث يتم تحديد حجم القطعة ومسار شكلها، باستخدام شاكوش يسمى «دبورة»، وبعد ذلك تلف القطعة بالقماش، بعد ظهورها فى هيئتها الأولى، حيث تكون مجرد حجر ولكن غير محدد الملامح.

«دردير» يضع تلك القطعة بعد ذلك لمدة ثلاثة أيام تحت حرارة الشمس، وتأتى المرحلة الثالثة، وهى تفريغ المرمر من الداخل، حسب الشكل المراد إخراجه، ولكل قطعة شكلها المرسوم على أوراق بيضاء، يضعها النحاتون أمام أعينهم حتى إخراج القطعة، وتأتى المرحلة التالية وهى تنعيم و«سنفرة» الحجر باستخدام المبرد.

{long_qoute_2}

والمرحلة الأخيرة، حسب «دردير»، تتم داخل الفرن، حيث توضع القطع بعد تنعيمها فى درجة حرارة 250 درجة مئوية، لمدة ربع ساعة، تخرج بعدها القطع لتطلى بطبقة من الشمع، وذلك حتى يظهر لون المرمر الحقيقى.

ولكن تلك المراحل لا تتم فى وقت قصير، حسبما يؤكد «دردير» ومدة الانتهاء من كل قطعة تتحدد حسب شكلها وحجمها ومدى التفاصيل، فالزهرية لا تأخذ وقتاً مثل تمثال رمسيس الثانى، على سبيل المثال، وبعض القطع يستمر العمل فيها لشهور، وليس فى حجر الألباستر وحده، ولكن هناك أحجاراً أخرى يعملون بها مثل حجر الجرانيت والبازلت.

ويضيف: «نحن الوحيدون على مستوى العالم الذين ما زلنا نعمل بتلك الحرفة يدوياً، بعد دخول الآلات، التى تنتشر فى ورش بالقاهرة وبعض الأقاليم الأخرى»، وهو يؤمن أن ما يخرج من الآلة لا يكون بنفس دقة ولا جمال ما يخرج من تحت أيدى فنانى القرنة من صناع المرمر.

يعمل «دردير» وأبناء قريته، فى أكثر من 80 ورشة لعمل تماثيل المرمر، وذلك بخلاف من يعملون داخل منازلهم فى تلك الحرفة، ويبيعون ما يصنعونه لتلك الورش، حيث يعمل فى تلك الحرفة 70 ألف نسمة، يمثلون 90% من أهل القرنة.

يبدأ الأطفال الانخراط فى تلك المهنة من سن 15 سنة، حيث يبدأ كل نحات تعليم أولاده كيفية النقش وصناعة التماثيل من حجر المرمر، ولكن فى تلك الآونة ومع صعوبات المهنة وأزماتها المرتبطة بالسياحة، أصبح يهجرها الصبية والأطفال ويرفضون استكمال مسيرة آبائهم، وهو ما يهدد مستقبل المهنة.

العزب الشحات، 50 عاماً، يقف بشارب كث وجلباب أزرق، يصفه من حوله من حرفيين بأنه واحد من أمهر نحاتى المرمر فى القرنة، وهم عدد قليل يعد على أصابع اليد الواحدة، يقول إنه رفض أن يستكمل أولاده الأربعة العمل فى تلك المهنة، علّم بعضهم النحت، ولكنهم جميعاً توجهوا للعمل بعيداً عنها بسبب قلة دخلها وشقاء العمل بها.

الرجل الذى يظهر عليه غضبه من المهنة، يقول: «مش مضمونة.. يوم تشتغل ويوم متشتغلش، يوم فيه سياحة، ويوم مفيش»، ويستطرد: «شغلانة متعبة ومجهدة، وعائدها ليس على قدر تعبها»، ولكن الأزمة الأكبر، بحسب الشحات، هى ندرة حجر المرمر وارتفاع أسعاره، خاصة فى ظل ارتفاع كافة الأسعار بعد تعويم الدولار: «مفيش حاجة مغليتش، حتى الحجر اللى بننحت فيه»، بخلاف ظهور قطع تصنع فى الصين مقلدة من أعمالهم، ولكنها هشة وضعيفة، لكن سعرها زهيد، وهو ما يدفع التجار إلى الإقبال عليها والعزوف عن ورش القرنة: «مفيش حاجة كرهتنا فى الشغلانة غير الشغل اللى بييجى من الصين.. شغل وحش وفى نفس الوقت رخيص، ودمر الصناعة»، يتحدث «الشحات» وهو لا يتوقف عن الطرق على حجر المرمر، فالقطعة التى بين يديه تحتاج لوقت طويل لا يريد أن يضيعه، ويقول بكل زهو: «إحنا هنا منبع الفن.. حاجة يدوية بيظهر فيها تعب النحات وشقاه طول النهار عشان يطلعها بالشكل الحرفى ده»، ويقارن بين ما يخرج من تحت يديه وما يأتى من الصين: «بتوع الصين بيصبوا قوالب جاهزة، مفيش حد فيهم بيقعد بإيده وبالشاكوش وينحت كل قطعة وكل رسمة بإيده»، ويطالب الدولة بوقف استيراد التماثيل المقلدة من الصين، لأنها تؤثر على مهنتهم، التى تمتد جذورها فى تاريخ مصر، قائلاً: «دى مهنة تاريخ مرتبطة بينا وبمعابدنا وآثارنا.. والمفروض الحكومة تهتم بتعليم الأجيال الحرفة دى عشان تحافظ عليها، مش كام سنة وتختفى»، ويشير لظهور بعض الورش فى القاهرة تسير على خطى الصناعة الصينية فى تنفيذ قوالب داخل ماكينات وبيعها لأصحاب الحانات والبازارات.

داخل أحد البازارات التى تتاخم ورش صناعة المرمر، يجلس «بدوى التهامى»، تاجر تحف وقطع مقلدة منذ أكثر من 25 عاماً، ويعمل بهذه المهنة هو وأولاده، ويقول: «إن صناعة الألباستر بدأت فى الانتشار فى قرية القرنة فى فترة الأربعينات، وتتميز بها القرية عن سائر بلاد مصر، وكانت قبل الثورة مربحة للغاية، ولكن مع أحداث الثورة توقف العمل تماماً، ورغم ما قدمته وزارة السياحة من دعم لأصحاب مهن أخرى كالمراكبية والحناطير، ليستطيعوا مواجهة الأزمة أهملت تماماً صناع «الألباستر».

يشير التهامى إلى أن «القرنة» فى الثلاثينات والأربعينات كانت طاردة للسكان، حيث إن أراضيها صحارى، ويهرب منها السكان للعمل فى القرى المجاورة فى الفلاحة، أما بعد ظهور مهنة نحت التماثيل بالمرمر على أيدى بعض الخواجات فى الأربعينات، أصبحت القرية جاذبة، والكثير من أهالى القرى المجاورة نقلوا مسكنهم إليها للعمل فى تلك المهنة، ولكن بعد ثورة 25 يناير تبدل الحال وعادت لتكون طاردة، فالأيدى العاملة هربت من المهنة وبحثت عن مورد رزق آخر.

«كل الكوادر هربت.. يعنى لو السياحة الإنجليزية والهولندية رجعت مش هنعرف نشتغل بدون الأيدى العاملة»، يقول التهامى مشيراً إلى أن النحاتين هربوا للعمل فى المصانع، فى السويس وفى المدن الجديدة، كالعاصمة الإدارية الجديدة، وسط العمالة: «تخيل لما نحات فنان بيعمل الشغل اللى موجود على الرفوف ده يروح يشيل الأسمنت ويشتغل فى الفاعل عشان يعرف ياكل عيش».

لم تكن تلك هى المرة الأولى التى يتعرض فيها أهالى «القرنة» لحالة ركود، وفقاً لـ«التهامى»، ففى التسعينات ومع حادث «الدير البحرى» الإرهابى، هربت السياحة وساد الركود، ولكن لم يستمر الأمر طويلاً، عام وآخر، وعادت السياحة من جديد، ولكن الآن البلاد تدخل السنة السابعة بعد الثورة ولم تعد السياحة كسابق عهدها، لافتاً إلى أن بلدته قديماً كانت أشبه فى غناها ببلاد الخليج، وكان الجميع يعيش حياة رغدة ويصرفون ببذخ شديد، ولكن الآن فى حالة يرثى لها.


مواضيع متعلقة